لو كانت الكهرباء تمتلك صفة واحدة من صفات الوطنية لما تخلت عن العراقيين
في هذه الظروف القاسية ؟. ولو كان في قلبها ذرة وطنية لما انقطعت عنا
وغادرتنا وهي تعلم علم اليقين بأننا في أمس الحاجة إليها الآن أكثر
من أي وقت مضى ؟؟.
ولو كان للكهرباء بعض الحياء لما سمحت للظلام يخيم علينا ويلفنا بعباءته
السوداء ؟؟, ولما حرمتنا من النور في هذه الليالي الحالكة ؟؟.
.فنحن نضحك في الظلام, ونبكي قي الظلام, ونكتب في الظلام حتى لم نعد
نميز أقلامنا من أصابعنا فبعد انحسار (الكهرباء ); تسيّدت جيوش الظلام
، واقتادت خيوط النور إلى الجبّ، واستباحت كل أفواه النهار.. إن يبلغ
السيل الزبى يكن الدمار! هي ذي طقوس الانهيار .
اختفت الكهرباء من حياتنا كليا ولم يعد لها أي وجود, وتباينت أسباب
اختفائها. فمنهم من يقول أنها اختفت بسبب سوء الأوضاع الأمنية وفقدان
الاستقرار, ومنهم من يقول أن انقطاعها جاء بناء على خطة لمؤامرة
تبنتها قوات الاحتلال من اجل نشر الفوضى وشل الحياة العامة, وهناك
فئة أخرى تربط غيابها بالنقص الحاد في الميزانية المقررة لتنفيذ مشاريع
توطينها, ويزعم البعض أن فرار الكهرباء من العراق يعزى إلى مشاكل
تتعلق بالصيانة والى عمليات التخريب التي استهدفت خطوط النقل وأبراج
الضغط العالي والى تعطيل محطات التوزيع, ويعتقد فريق آخر أن شحة الوقود
هي التي دفعتها إلى الهجرة, ومنهم من يقول أن عزوف المواطنين عن دفع
مستحقات أجور الكهرباء وتسديد حقوقها هو الذي جعلها تلملم أسلاكها
وترحل, في حين يعتقد بعض العارفين أن أصحاب معامل الثلج هم الذين
يقفون وراء اختفائها, لكن الفلكيين وعلماء التنجيم يقولون أنها أصيبت
بالحسد من عين حارة, وانه يتوجب علينا أن نجلب ديك يتيم وندفنه شمال
أحدى محطات التوزيع عند اقتراب مذنب هالي من الأرض في دورته القادمة,
وقد سخر علماء الطبيعيات كثيرا من هذه التكهنات المبنية على الشعوذة
, وأكدوا أن اختفاء الكهرباء كان بسبب مرورها بفترة سبات طارئة. . .
لكن الثابت لدينا أن الكهرباء تتسكع الآن في كل المدن العالمية وفي
دول الجوار, وأنها تتغذى الآن على أشهى أنواع مصادر الطاقة الهوائية
والشمسية والغاز الطبيعي والفحم الحجري إضافة إلى المحروقات الأخرى
, وذكر بعض الوافدين من الخارج أنها تعمل الآن بقوة المياه المتدفقة
من الشلالات وبقوة مياه المد والجزر.وترقد في محطات خمس نجوم . .وبرغم
توفر جميع هذه المصادر عندنا فقد حزمت أمتعتها وأصرت على المغادرة
, ونحن الآن بانتظار معجزة تعيدها إلينا, ونشعر بوجودها أسوة
بأقراننا من الجنس البشري في ارض الله الواسعة.
صبرنا على انقطاعها غير المنتظم وتصرفاتها المراهقة الشاذة وحركاتها
الطائشة التي كانت تقوم بها قبل أن تقرر الهرب والابتعاد عنا, كنا
نحسب أن تلك التصرفات الرعناء مجرد تصرفات عابرة ومجرد سلوك طارئ,
وأنها ستعود إلى صوابها والى رشدها, لكنها خذلتنا جميعا واختارت
الفرار والهجرة خارج العراق, وتركتنا في أوضاع مزرية حيث نواجه
جهنم في الصيف والزمهرير في الشتاء. .
لقد ترك غيابها جرحا عميقا في نفوسنا, وقلب موازين حياتنا رأسا
على عقب, وعصفت بقلوبنا الأشواق بانتظار تحقيق أحلامنا بلقاء قريب
يجمعنا بها.
ولا ادري ما الذي يدفعني إلى ترديد هذا البيت من رائعة الشاعر
الاندلسي ابن زيدون كلما مررت على لوحة الكهرباء التي تحولت في
بيوتنا إلى لوحة تراثية تذكرنا بزمن الامبيرات والفولتات التي
حرمنا منها:
حَالَتْ لِفقدِكُمُ أيّامُنا، فغَدَتْ *** سُوداً، وكانتْ بكُمْ بِيضاً لَيَالِينَا