فن للصراخ وليس للتأمل
بوتيرو يحوّل مأساة ابو غريب الى جورنيكا للجرائم الأمريكية
سلوى البني*
النجاح الكبير الذى حققه الفنان الكولومبى فيرناندو بوتيرو فى معارضه الأخيرة فى روما وبون ونيويورك وواشنطن التى اقيمت بين يوليو-تموز واكتوبر-تشرين الأول الماضيين، دفعت جامعة كولومبيا الامريكية فى نيويورك الى الإعلان انها اشترت 24 عملاً زيتياً و23 عملاً تخطيطياً من أعماله الفاضحة المستوحاة من مأساة سجن ابو غريب.
وكان بوتيرو بدأ سلسلة أعماله المتعلقة بأبى غريب تحت عنوان "لا تستح من الحقيقة" ومن ذلك الحين بدأ مساعيه الرامية إلى إيصال تلك الأعمال إلى المتاحف الأميركية والعالمية، وكان أول نجاح له فى الولايات المتحدة تمكنه من بيع عدد من تلك الأعمال إلى جاليرى مارلبورو فى مدينة نيويورك الذى أصبح أول قاعة فنون تشكيلية معروفة تعرض هذه الأعمال التى جذبت انتباه الجمهور حتى غير المهتم بالفنون التشكيلية، بعد أن أدى الأمر إلى وضع كاليرى مارلبورو المغمور على خارطة أهم قاعات العرض المتخصصة بالفنون التشكيلية .
وعرضت مجموعة من لوحات سلسلة "أبو غريب" فى متحف الجامعة الأميركية ومركز كاتز للفنون فى واشنطن العاصمة لعرض تلك الأعمال الشهر الماضي. كما يجرى التفاوض على عرض مجموعة من أعمال بوتيرو - أبو غريب لدخول متحف بالازو فينيسيا فى إيطالي، وهناك خمسون لوحة زيتية منها قام باستضافتها متحف فوورث الألمانى ومتحف إلازو ريال فى مدينة ميلان الايطالية ومتحف أى فى أى أم فى مدينة فالانسيا الأسبانية.
وكان بوتيرو درس الفنون فى بلده الأصلى كولومبيا ثم فى أسبانيا وهو يسكن منذ العام 2003 فى مدينة باريس، ونظراً لثقافته اللاتينية عرف باستخدام الألوان الحارة وترك إنطباعاً واضحاً لدى النقاد بأنه فنان تجريدى بشكل أو بآخر. وتأثر فى المنحوتات الخشبية القديمة فى أسبانيا والمكسيك والصين والرسومات على صحون الخزف القديمة، فى محاولة لاكتشاف عناصر الجمال الكامنة فى المادة سعياً لتعويض النقص فى مفهوم الجمال البصري.
وتتراوح موضوعات بوتيرو بين الحرب الأهلية فى بلده كولومبيا مروراً بالأشكال الفولكلورية وانتهاء بالموضوعات الأوروبية المعاصرة كالاسترخاء فى الحدائق العامة والوقوف فى طوابير الانتظار فى محطات الميترو، لكن موضوعة "أبو غريب" تظل موضوعته السياسية الأولى التى أطلق بواسطتها صرخة مدوية ضد الحرب فى أى مكان بعد أن صدم بالتفاصيل التى نشرت عن الفضيحة فى وسائل الإعلام الأميركية وشبكة الإنترنت.
وكان بوتيرو وقتها فى الولايات المتحدة فى زيارة لولده المقيم فى ميامي، "هذا فن للصراخ والإحتجاج وليس للتأمل". ويقول بوتيرو عن موضوعة "أبو غريب"، إنها ليست للبيع ولن يتمكن محبو الفنون من شرائها وصلبها على الجدران. ينبغى أن تدور على المتاحف فى كل مكان، هى نتاج صدمة حقيقية تشبه إلى حد ما صدمة بيكاسو بقصف الألمان لقرية الجورنيكا، لولا صدمته تلك لما شهد العالم جداريته العظيمة الجورنيكا.
لقد أراد بوتيرو ان يعبر عن غضبه فى لوحات صارخة تصف الإذلال والتعذيب الذى تعرض له السجناء العراقيون على يد المحتلين الأميركيين.
ولم تكن الأعمال التى رسمها بوتيرو حول فضيحة "أبو غريب" هى الأولى من نوعها، كما لم تكن موضوعتها، مجرد صرخة فى وجه الاحتلال الأميركى والتعذيب الذى مارسه الجنود الأميركيون فحسب، بل كانت، على حد قوله، "صرخة احتجاج على كل ممارسات التعذيب التى حدثت والتى ستحدث فى سجون العالم أجمع".
وكان بوتيرو رسم من قبل، عشرات اللوحات التى تدين التعذيب والقتل والحروب، وهو المواطن الكولومبى الذى عانت بلاده الحروب الأهلية قرابة نصف القرن. رسم وحشية قتل الثوار والإعدام الجماعى والتعذيب فى السجون، ورسم بكل جرأة بورتريهات ساخرة لرموز عسكرية حاكمة، وما اللوحات التى رسمها احتجاجاً على فضيحة التعذيب فى سجن "أبو غريب" سوى إضافة مهمة ستزيد الكثير الى ما سبقها من رسومات.
تمتاز أعمال بوتيرو، حسب بعض النقاد، بشخوصها ذات الأحجام الكبيرة. ويقول الناقد العراقى حسين السكاف، ان الناظر إليها للوهلة الأولى، يتصورها وكأنها رسوم كاريكاتورية. لكنه سرعان ما يتعرف إلى أسلوب فنى مميز، هو ذلك الأسلوب الذى منحه شهرة عالمية واسعة. فهو من الفنانين العالمين القلائل الذين لم تبهرهم أساليب المدارس الفنية التشكيلية الحديثة، وأسلوبه الفنى القريب من أسلوب الموروث الفنى الإسبانى منحه خصوصية واضحة تميزه عن بقية معاصريه. وكانت زيارته الأولى لباريس عام 1953 منحته أفقاً ورؤية فنية جديدة جعلته أكثر تمسكاً وتآلفاً مع أسلوبه الفنى الخاص.
يعتبر بوتيرو المولود فى مدينة ميديلين الكولومبية فى التاسع من أبريل-نيسان عام 1932، من أهم فنانى أميركا اللاتينية الأحياء وأكثرهم شهرة، فأعماله الفنية ومنحوتاته تنتشر فى معظم العواصم الأوروبية وعواصم الأميركيتين. فى فنّه موضوعات تقليدية، حياتية بسيطة لا تخلو من السخرية، تتناول مفردات الحياة المألوفة فى شكل عام، وترصد السيدات بصورهن المألوفة أحياناً، وأنوثتهن المبالغ فيها فى أحيان أخرى مع إضافة بعض من الفكاهة. ولعل لوحة "راقصة الباليه" التى رسمها عام 2002، ولوحة "امرأة مدخنة" عام 2004، خير دليل على تلك الفكاهة، ففى لوحة الباليه مثلاً اختار الرسام الإسبانى امرأة أربعينية مكتنزة الجسم.
وكثيراً ما تناول بوتيرو فى أعماله الأسواق والأزقة والبيوت، و تجمعات عائلية، والفرق الموسيقية كما فى لوحة "الموسيقيون" التى رسمها عام 1991. والرجل حاضر كثيراً فى لوحات بوتيرو، من العسكرى إلى الموظف، والعاشق، والصياد وغيرهم.
من ناحية ثانية، ينغمس بوتيرو فى الواقع السياسي، ليرصـد تحـركاته وتحولاته، كما فى لوحة "مقتل بابلو اسكوبار" عام 199، وبورتـريه "الطغمة الانقلابية العسكرية" التى رسمها عام 1971، وكذلك اللوحة التى لم تحمل عنواناً يميزها، هو "من دون عنوان" مكتـفياً بموضـوعـتـها التـى تفضح ممارسة التعذيب الذى كانت تمارسه الشرطة الكولومبية ضد سجناء الرأي.
امتاز بوتيرو برسم الملصقات، وله فيها تاريخ طويل امتد قرابة نصف القرن. وتعد ملصقاته بين الأجمل فى وقتنا الراهن، من ملصقات مصارعة الثيران العديدة، المثيرة بحركاتها وشخوصها يعد ملصقا "الموناليزا" الذى رسمه عام 1977 و "رأس المسيح" عام 1976 من أشهرها وأكثرها مبيعاً.
تأثر بوتيرو فى المنحوتات الخشبية القديمة فى أسبانيا والمكسيك والصين والرسومات على صحون الخزف القديمة، فى محاولة لاكتشاف عناصر الجمال الكامنة فى المادة سعياً لتعويض النقص فى مفهوم الجمال البصري. لقد وظف بوتيرو ثقافته اللاتينية ليس فى اللون حسب، بل أيضاً فى الموضوعات التى تناولها على الرغم من إنه يرسم الأشخاص لذاتهم بطريقة تشبه البورتريت الذى يبدو فيه الموضوع أو المكونات التى تحيط بالشخصية باهتة وجانبية. ويشتغل بوتيرو فى مجال نحت التماثيل البرونزية والأعمال الزيتية والتخطيطات التى تعتمد فى غالبها الباستيل، وتعطى أعماله بشكل عام إنطباعاً أولياً بأنها شخصيات سمينة ومنتفخة.
وهو يقول عن تلك الظاهرة، إنها ليست شخصيات سمينة، بل هى تحاول أن تعطى إنطباعاً حقيقياً، فالفنان لا يبرر أعماله فى الحقيقة، نحن ننجذب إلى أنواع معينة من البشر أو الأشكال من دون أن نعرف لماذا، ربما الحدس هو الذى يقودنا إلى ذلك.
وتبدو الرؤوس لدى بوتيرو كبيرة فى الغالب، وتستحوذ أحياناً على ربع كتلة الشخصية، فى حين تبدو الأطراف والعيون والأنوف أصغر من حجومها المعتادة، وعلى الرغم من أنه يرسم فى الغالب شخصيات ذات ملامح لاتينية، ويظهر تأثر بوتيرو بالرسام الاسبانى الكبير بابلو بيكاسو واضحاً فى الكثير من أعماله، سيما وأنه قد واجه بعض المشاكل مع الكنيسة بسبب بعض التفصيلات الفاضحة فى أعماله، سواء النحتية أو المرسومة، تماماً كما حدث مع بيكاسو نفسه الذى حاول بوتيرو إسقاط أسلوبه الخاص بالرسم على شخصياته، بعد أن اختار عدداً من الأعمال الشهيرة لرسامين كبار من أمثال دافنشى وغويا وفان كوخ وموندريان، بالإضافة طبعاً إلى بيكاسو، وأعاد رسمها بأسلوبه المميز، وموناليزا بوتيرو خير مثال على ذلك.
ويعبر بوتيرو عن إيمانه بأن "الفن قادر على تغيير العالم ومن أجل تنفيذ ذلك ، يجب على الفنان أن ينقل روحه من قلب الجحيم إلى صميم الأرض". وإذا كانت لوحة الجورنيكا حول فاشية فرانكو، فأن لوحات أبو غريب هى حول دموية بوش.
ولم يستوحِ بوتيرو لوحاته من الصور المنشورة بل استوحاها من الشهادات الفعلية التى خرجت من السجن . كما أوحت له الكتابات حول هذه الجرائم برسم هذه اللوحات بأقصى ما يمكن من خيال. ففى إحدى لوحاته نرى جنديا أمريكيا يضرب بوحشية سجينا عراقيا مدمى لا حول له ولا قوة . وفى لوحة أخرى ، سجينا مقيد اليدين عارى الجسد مربوطا بقضبان سجنه كما لو أنه معلق على صليب وعلى رأسه ملابس داخلية نسائية مثل قلنسوة أو كيس.
ويضيف الفنان بأنه "ليس لديه توجه تجارى فى رسم هذه اللوحات، فقد رسمتها لأقول شيئا عن الرعب . والفن ما هو إلا وسيلة من وسائل التخاطب والتواصل بين الفنان والجمهور وأهميتها تكمن فى عرضها فى المتاحف واطلاع الجمهور العريض عليها لا أن تبقى حبيسة داخل البيوت والمجاميع الفردية الخاصة" وهدفه بالدرجة الأولى "عرض هذه اللوحات وكشف أهوال الجلادين الأمريكيين وأكاذيب قادتهم".
مفردات هذه اللوحات: العري، أهرامات اللحوم، الضرب المبرح، ممارسة اللواط على السجناء، إجبارهم على التعرّى ولبس ملابس نسائية داخلية، استخدام الكلاب العسكرية لترويع المعتقلين وعضهم، اغتصاب النساء المعتقلات. وهذه الممارسات تنطوى على تجريد الإنسان من إنسانيته بطريقة لم يسبق لها مثيل فى كافة الحروب والاحتلالات فى العالم.
إن تعرية الرجال وتكديسهم فوق بعضهم أو إجبارهم على ممارسة العادة السرية أو اللواط فيما بينهم يعنى انتهاك التقاليد العربية والإسلامية التى ترفض الإباحية والتعرى وتعتبرها منافية للخلق والدين وبالتالى استخدمت قوات الاحتلال والمخابرات الأمريكية هذا الأسلوب السادى اللاإنسانى فى التعذيب كوسيلة لانتزاع الاعترافات وكسر إرادة المعتقلين.
وقد صرح بوتيرو مرارا بأنه لا يستطيع أن يبقى صامتا ومكتوف الأيدى تجاه الحروب والعنف اللامعقول فى العالم ولذلك صور مشهد الدماء فى حرب الشوارع فى كولومبيا فهو ليس بالفنان المسالم، يقول بوتيرو " إذا كان الفن مسالما يفقد قدرته على التغيير".