كاظم فنجان الحمامي
المعقل, واسمها المُحرف (ماركيل), اما اسمها المثبت في خرائط عقارات الدولة فهو (كوت الإفرنكي), واحدة من أجمل المدن العراقية, وأكثرها جاذبية في منتصف القرن الماضي, لم تكن تختلف كثيرا عن القرى الوادعة في الريف الانجليزي, بل تكاد تكون نسخة منها من حيث الهدوء والجاذبية والمنازل المتفرقة المعروفة بطابعها الأوربي القديم. .
ازدهرت هذه المدينة وأخذت تتفوق على مثيلاتها من مدن البصرة ابتداءً من عام 1919, وهو العام الذي تحسنت فيه صورة التجمعات السكانية في الموانئ العراقية بعد الحرب العالمية الأولى, فصارت المعقل هي الوجهة المفضلة للباحثين عن الهدوء وسط الطبيعة الخلابة, وهي الملاذ الذي يمنحهم متعة التنقل بين جنبات طرقاتها وحدائقها وقناطرها الخشبية الصغيرة, وهي المنتجع المفتوح لطواقم السفن التجارية المترددة على مينائها, الذي كان سيدا لكل الموانئ والمرافئ في حوض الخليج العربي من دون منازع. .
بنيت معظم بيوتها على النمط الانجليزي, وازدانت شوارعها بأشجار النخيل والكالبتوس والسدر, وتزينت أرصفتها بأزهار القرنفل والنرجس والبنفسج والياسمين, وطفت زنابق الماء على جداولها المنسابة نحو شط العرب, في نظام فريد يستمد طاقته الطبيعية من حركة المد والجزر في الليل والنهار, اما العطر الذي كان يعبق بشذاه في ليالي هذه المدينة المينائية الجميلة فهو عطر أزهار ملكة الليل, وكأنه هويتها وعلامتها الفارقة التي لا تنسى. .
كان شارع (إجنادين) قطعة من الجنة بأشجار البرتقال والمشمش والسفرجل, كان عبارة عن فردوس طبيعي تعشش فوق أغصانه أجمل أنواع العنادل المغردة, ويغفو في ظلاله الحمام واليمام, لا يملك المتجول في هذا الشارع إلا أن يتأنى في سيره, ويبطئ حركته حتى لا تفوته فرصة التمتع بجاذبية المكان الذي جمع الجمال كله في صورة شارع الأحلام (شارع إجنادين). .
توفرت للمعقل كل مستلزمات الرقي في المدة التي صار فيها (مزهر الشاوي) مديرا عاما لمصلحة الموانئ, فمنحها وقته كله, حتى أصبحت عنوانا بارزا من عناوين الرخاء, بنواديها الترفيهية (نادي البورت كلوب, والرياضي, والأرمن, والسكك), وقاعاتها الرياضية, ودورها السينمائية, ومسابحها الثلاثة (مسبح البورت كلوب, مسبح المطار, مسبح التشاينا كامب), ومكتبتها العامة, ومساجدها العامرة, وحدائقها الشعبية ( الأندلس, الجمهورية, البيت الصيني, السندباد, النجيبية, الشاطئ), ومشاتلها الواسعة, ومدارسها التي كانت أنموذجا للمدارس الحديثة بمختبراتها ومسارحها وساحاتها وقاعاتها الدراسية), وانفردت بملاعبها الكبيرة, التي شملت الألعاب كلها, لكنها تميزت بملاعب التنس الأرضي, وكرة القدم, والسلة والطائرة, وقاعات رفع الأثقال. .
وربما كانت مكتبتها العامة هي المكتبة الأكبر والأضخم بما تحتويه من كتب ومراجع نادرة. لقد كانت تأتيها المجلات والصحف الأجنبية من أوربا محمولة على الطائرات المترددة على مطار شط العرب. .
اما اليوم فقد تحولت هذه المدينة الرائعة إلى مكب للنفايات, ومأوى للكلاب السائبة, وملاذ للقطط الضالة, فتساقطت أشجارها, وتهدمت مكتبتها, وتفحمت حدائقها, واختفت مسابحها, وتحطمت دورها السينمائية, وأغلقت نواديها الترفيهية, وتشوهت شوارعها, وتوقفت جداولها عن الجريان, فتحولت إلى برك تعج بالنفايات والمياه الآسنة. .
صارت حدائق البيت الصيني متاحة اليوم لمن هب ودب, خصوصا بعد أن شملتها ظاهرة الحواسم, فتكاثرت على أرضها التجاوزات السكانية, وبات من حق أي مواطن أن يشيد بيته عليها بالطريقة التي يراها مناسبة, وفي الموقع الذي يختاره بنفسه, وبالمساحة التي تلبي احتياجاته, واستطالت معاول التجاوزات لتشمل ضفاف الأنهار والجداول, وتتوغل إلى الساحات والملاعب العامة, وتتطاول على محرمات المدارس. .
ثم زحف الخراب نحو شارع إجنادين, فتحول في الليل إلى وكر للأشباح والكلاب المستذئبة, ولا يملك المتجول بسيارته ليلا في هذا الشارع إلا أن ينطلق بأقصى سرعته حتى لا يعرقله الهجوم الذي قد تشنه عليه الكلاب العدوانية الضالة. .
اختفت السينما الشتوية من شارع إجنادين, وتعفنت الأحواض المخصصة للسباحة, وصارت دار السينما الصيفية حظيرة للأبقار. .
ذهبت قبل بضعة أيام إلى شارع الملعب, والذي كان يضم اكبر ملاعب البصرة لكرة القدم والسلة والطائرة, وتقع فيه القاعة المخصصة لنادي الميناء الرياضي, وهي قاعة ترفيهية كانت تقام فيها الأعراس والاحتفالات, تقابلها باحة صيفية مفتوحة, تطل على الملاعب الرياضية من جهة, وعلى دار السينما الصيفية من جهة أخرى, وكانت تجري فيها سحبات لعبة (الدنبلة), اما اليوم فقد تحولت القاعة الشتوية إلى مأوى عشوائي للأسر الفقيرة, فتكدست بيوت الصفيح والتنك في الساحة المخصصة للسينما, وفي الباحة الصيفية للنادي. .
ربما كانت المدينة الترفيهية الجديدة (بصرة لاند) هي النقلة المعمارية الوحيدة, التي شهدتها المعقل بعد سبات طويل دام نصف قرن, وشاءت الأقدار أن يتولى رجل من أهلها مهمة إحياء المدينة القديمة في مشروع استثماري ضخم, كان منصور بن زايد السكيني (وهو من مواليد 1963) من الذين ارتبطت ذكرياتهم في مرحلة الطفولة بدواليب حدائق الأندلس ومدينة ألعابها, وكان شاهدا على مراحل تدهورها نحو الأسوأ, فعاد إلى ملاعبها في ربيع عام 2009, ليزيح عنها آثار الخراب والدمار بجهوده الذاتية, ويرفع عنها التجاوزات, وينشأ في الموقع نفسه مدينة معاصرة تضاهي المدن الترفيهية في عموم العراق, حتى أصبحت اليوم هي النافذة الترفيهية الأولى في البصرة, وكانت إحدى النوافذ السياحية, التي أعادت الفرحة إلى النفوس المحرومة, المثقلة بالهموم والمآسي. .
وسيعود إليها الرجل الذي ازدهرت في عصره المعقل مُجَسدا في نصب تذكاري يقف على حافة ناصية شارع (مالك بن دينار) عند بوابة إعدادية المعقل للبنات, على مسافة ليست بعيدة عن مقر المؤسسة العريقة, التي حملت صولجان سلطة الموانئ العراقية منذ عام 1919 وحتى يومنا هذا.
التمثال من إبداعات الفنان البصري علي عاشور, وبتمويل من رئيس المهندسين الأستاذ علي خريبط صاحب شركة (بصرة ماس), ورعاية مدير عام الموانئ الكابتن البحري (عمران راضي ثاني). .
عاد إليها مزهر الشاوي بتمثاله الذي شغل مكانه الراسخ في قلوب محبيه من أبناء هذه المدينة التي كانت هي الأجمل, لكنه لم يعد إليها بروحه وأفكاره الوطنية, وشتان بين الحجر والبشر, وشتان بين المعقل الأجمل والمعقل (المبهذل), وشتان بين المعقل, التي كانت عنوانا من عناوين الجمال, ورمزا من رموز التحضر, وبين المعقل التي قتلها الإهمال في الألفية الثالثة حتى صارت عنوانا من عناوين المدن الكئيبة المتخلفة, فالمعقل الحالية لا تشبه المعقل القديمة لا من بعيد ولا من قريب.