هكذا علمني أبي!..
أنا شاب في الثامنة عشر من عمري، مهذب ومطيع ومضرب الأمثال بالنسبة لأولياء أمور أصدقائي.. وقد تجاوزت دراستي الثانوية بنجاح، ولم يبق لي هم إلا الدخول إلى معترك الحياة.. ذلك الهم الذي أقرح جفوني وسهرني الليالي، لأني كنت خائفا من أمور كثيرة تخص العمل والمشاكل والتعامل مع من هم أكبر مني سنا في الحياة.
في البداية اتجهت إلى الكتب والبرامج التي تختص بمهارات التعامل مع الناس، ولكني لم أجد إلا مجموعة من القواعد والمهارات والأساليب المعقدة، والتي غالبا ما تكون مستشفة من حياة الغرب التي لا تناسب مجتمعنا ولا ديننا، وحتى المناسب منها يحتاج إلى حفظ وممارسة مما زاد وطور في قلقي.. وبعد أن وجدت نفسي قد وصلت إلى طريق مسدودة، قررت بعدها اللجوء الإنساني إلى والدي العزيز، ذلك الرجل الناضج والمثقف، والذي يمتلك حصيلة عظيمة من التجارب والخبرات التي تميزه وتجعله ناجحا في هذه الحياة، وترشحه ليكون قدوتي وأملي الكبير الذي أعوُل عليه عند الشدائد.
ذهبت إلى مكتبه بخطوات متسارعة، وكلي أمل أن أجد ضالتي عنده، وعندما وصلت طرقت الباب فسمعت الجواب :
الأب : تفضل!..
الابن : السلام عليكم يا أبي!..
الأب : وعليكم السلام، أهلا يا ابني اقترب واجلس!..
الابن : أرجو أن لا أكون قد أزعجتك يا أبي، لأني أعرف هذا الوقت للقراء ة والمطالعة بالنسبة لك؟!..
الأب : اجلس اجلس يابني، كل وقتي وحياتي تهون من أجلك.. وهل قراء تي ومطالعاتي إلا لأجلكم ولأجل تربيتكم؟!.. قل لي ما الذي يشغلك ويهمك، فإني أقرأ علامات القلق في وجهك؟..
الابن : الحقيقة يا أبي إني أرغب في تعلم فن التعامل مع الناس، لأني أريد أن أكون محبوبا ومحترما من الجميع، وأريد أن أكون مميزا وناجحا في تعاملي مع الكل.. وأنا أعرف أن ذلك لا يكون بالتعامل العشوائي والمرتجل، بل بأسس وأصول مدروسة.. وأنا عندما جئتك يا أبي فأنا لا أنتظر أن تقول لي : اقرأ الكتب الفلانية، أو اسمع المحاضرة الفلانية!.. بل أريدك أن تعطيني خلاصة تجربتك، وتعلمني طريقة بسيطة أتعامل بها مع الجميع بكل سهولة ويسر.. وأنا كلي أمل أن لا تردني خائبا، وتقول لي : لا أستطيع مساعدتك.
الأب : ههههههه!.. هدئ من روعك يا بني، أنا أقدر شعورك، لأني أعرف أنكم أيها الشباب
في هذه الأيام تريدون كل شيء بالساهل ودون تعب.. لكن أنا حاضر، وسوف أبلغك ما تريد،
اسمع مني يا بني!..
الابن : كلي آذان صاغية، أعطني ما عندك يا والدي العزيز!..
الأب : يا بني!.. نحن المسلمين يجب أن نقتبس كل العبادات والمعاملات من ديننا الحنيف،
وأن نأخذ تعاملاتنا من القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، وسيرة أهل البيت (ع)، والصحابة المنتجبين.
الابن : أنا أعلم كل ذلك يا أبي، ولكن قلت لك : إني بحاجة إلى طريقة سهلة وعملية وو...
الأب : صبرا صبرا يا بني!.. ألم أقل لك : أنكم معشر الشباب فيكم التسرع والعجلة، فأنت قاطعتني، ولم تصبر حتى أكمل كلامي.
الابن : أنا آسف يا أبي، تفضل وأكمل!..
الأب : اسمع يا بني!.. هناك قاعدة عامة بإمكانك استخدامها مع الجميع، وهي لا تأخذ منك
وقتا ولا مجهودا، سوى التذكر والتطبيق.
الابن : قاعدة واحدة يا أبي!.. معقولة!.. قلها قلها بسرعة!..
الأب : لا فائدة منك، الصبر يا بني!..
الابن : اعذرني يا أبي فشوقي للمعرفة قد غلبني، وفقدت السيطرة على نفسي.
الأب : لا بأس يا بني، اسمع :
القاعدة تقول : (اجعل من نفسك ميزانا في تعاملك مع الناس)!..
وقبل أن تقاطعني وتسألني عن معناها ومن واضعها، سأقول لك : هذه القاعدة تقصد أن تجعل نفسك هي الميزان في تعاملك مع الناس، بحيث تعاملهم بما تحب أن يعاملوك، وبالطريقة التي تحبها وتتوقعها منهم.. ومن وضع هذا القانون هو الحكيم الأعظم، ومعلمنا الأول، وفيلسوف البشرية، وهو رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - حيث قال : (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويكره لها ما يكره لنفسه).. وهناك الكثير من الأحاديث تتفق مع هذا الحديث بنفس المعنى.
الابن : الله الله يا أبي!.. إنه حديث رائع وعظيم، تتجلى فيه كل معاني الإنسانية.. ولكن يا أبي كيف أطبقه مع طبقات المجتمع وشرائحه؟..
الأب : إذاً يا بني سأخبرك، وأرجو أن تنتبه معي، لأني كلي ثقة بعقلك واستيعابك الكبير.. وكن معي، فسأبدأ بتعداد الشرائح وكيف نتعامل معها :
1 - في الصداقة : سوف أسألك : كيف تريد أن يعاملك صديقك، وماذا تتوقع منه؟..
الابن : طبعا يا أبي أريد منه أن يحبني، وأن يحترمني، ويهتم بي، ويراعي مشاعري وظروفي، وأن يبادرني بالهدية والمجاملة الصادقة، وأن وأن...... إلى آخره.
الأب : إذاً طبق القاعدة معه، واعمل معه الأمور التي تحب أن يعملها لك!..
والآن مع الشريحة الثانية :
2 - في الحياة الزوجية : وأقسمها لك قسمين : القسم الأول : أنت رجل وعندك أخت، وستكون عندك بنت إنشاء الله، فكيف تحب أن يعاملها زوجها؟..
الابن : بالطبع سوف أحب أن يعاملها بكل احترام وحب ومودة، وأن لا يهينها، وأن لا يقصر
معها بقضاء الحوائج، والسكن والنفقة، وأن لا يحرمها من أرحامها، وغيرها من الأمور الكثيرة التي فيها حفظ كرامتها.
الأب : إذاً يا بني فالزوجة أيضا لها أب وأخوة وأبناء عمومة، لهم الحق أن تعامل ابنتهم وأختهم بهذه الطريقة.. فيجب أن تعاملهم كما تحب أن يعاملوا أختك أو ابنتك.
والقسم الثاني يا بني : أنت كزوج - إنشاء الله - كيف تحب أن تعاملك زوجتك؟..
الابن : أريدها أن تحبني وتعبر عن شعورها تجاهي عمليا، وأريدها أن تحترمني وتراعيني، وتتودد لي، وتصبر على طباعي، وتحاول أن تنسجم معي، وعموما لا أريدها أن تقصر معي بأي شيء، وتلتزم بحقوقها وواجباتها.
الأب : أحسنت يا بني، إذاً هي تستحق أن تعاملها بنفس الطريقة والأسلوب.
والآن سنذهب لشريحة أخرى في المجتمع وهي :
3 - شريحة الآباء والأمهات : وسأقسمها لك إلى قسمين أيضا :
القسم الأول : أريدك أن تتخيل نفسك في المستقبل، ماذا تريد من أبنائك، وكيف تريد أن يعاملوك؟..
الابن : أتوقع يا أبي أن يكون لي الاحترام الكبير، وأن يسمعوا كلامي ونصائحي، ويراعوني ويعاملوني بالحسنى، ويحبوني كما أحبهم.
الأب : إذاً يا بني لا تبخل على والديك بهذا التعامل.
والآن أنتقل للقسم الثاني : وهو تخيل نفسك وقد عقَك أولادك في المستقبل، ماذا سيكون شعورك؟..
الابن : آه يا أبي!.. إنه شعور سيى ء ومؤلم ومغضب للرب، ولا أستطيع تحمله.. هل هذا جزائي بعد تربيتي وتعبي عليهم؟..
الأب : إذاً لا ترضى يا بني على والديك هذا التعامل!..
والآن ننتقل إلى شريحة جديدة وهي :
4 - شريحة الأبناء : تذكر يا بني وأنت في أعمارهم ماذا كنت تريد من والديك، وكيف تحب أن يعاملوك، وماذا كنت تكره؟..
الابن : الكثير يا أبي، فأنا أحب أن يعاملوني باحترام، وأن يعطوني الثقة بنفسي، وأن لا يهينوني، وأن يهتموا بي وبدراستي، وأن لا يقصروا معي ماديا ومعنويا، وغيرها من الرغبات.
الأب : إذاً يا بني فلتعامل أبناء ك مستقبلا بهذه الطريقة.
وشريحتي القادمة هي :
5 - زملاؤك في العمل، ما الذي تحبه منهم وما الذي تكرهه؟..
الابن : أحب منهم يا أبي أن يتعاونوا معي، وأن لا يثقلوا علي، ويتركوا عبء العمل علي بكثرة الإجازات والكسل.
الأب : إذاً يا بني عاملهم كما تحب أن يعاملوك!..
والآن مع شريحة أخرى مهمة وهي :
6 - الأصدقاء في الديوانية : إذا ذهبت إلى الديوانية، فكيف تحب أن يعاملوك، وماذا تكره منهم؟..
الابن : أحب يا أبي أن أستقبل استقبالا حافلا، وأن يوسع لي في مجلس ومكان مميز، وأن يرحب بي، ويقدم لي أفضل بروتوكول ضيافة.. وأكره أن لا يهتم بي، أو أقاطع في حديثي،
أو يقلل من احترامي ببعض التصرفات ؛ مثل الاستلقاء، ومد الرجلين وغيرها من أمور.
الأب : إذاً يا بني إذا كنت في ديوانية أو مجلس، فعامل جلساء ك بما تحب أن تعامل به.
والآن يا بني إليك شريحة أخرى وهي :
7 - شريحة الجيران : فاذكر لي ماذا تتوقع من جارك؟..
الابن : إني أتوقع من جاري أن يحترمني، ويبادرني بالسلام والسؤال عن الحال، وأن يحترم حقوقي، ولا يتعدى عليها.
الأب : إذاً هو يتوقع منك ذلك التعامل.
وهناك يا بني شرائح كثيرة في المجتمع، تستطيع أن تتعامل معهم بهذه القاعدة العامة مثل :
(الأرحام، والفقراء، والعمال، وأصحاب المهن، ومع الناس في الطريق، وفي التعامل مع أصحاب الأديان والمذاهب الأخرى).
والآن أرجو أن تكون استوعبت الدرس وفهمته.
الابن : نعم يا أبي فهمته، وسوف أطبقه في جميع تعاملاتي، وسوف أدعو لك بالتوفيق والمغفرة.
(منقول)