بعد اربعة ايام والمصادف 13 /7
الذكرى السنوية الحادية عشر لرحيل رائد علم الاجتماع البريفسور علي الوردي رحمه الله تعالى وهذا حوار معه
ساعات وساعات –يقول المثقف العراقي- تركنا أنفسنا، الراحل الوردي وأنا، لنوع من الترف الفكري، من ذلك الترف الذي تغري به أيام الصيف على رمال الشاطئ، حين تتسابق الأحلام كما تتسابق الأمواج ناسية أنها في النهاية واصلة إلى صخور تكسر رؤوسها وتردّها مرة أخرى على أعقابها.
وهذا هو الحوار بكامله كما جرى وكان ـ نقلا عن مجموعة أوراقي ـ ومن دون أن أضيف إليه شيئا آخر في المتن أو في الحواشي، ومن دون استطرادات او استدراكات او إضافات او رسم سيناريو للحوار.
قلـت للـوردي:
قرأت مقالة لك قبل سنوات طويلة (أوائل الثمانيات) وهي بعنوان (من على ظهور الحمير إلى الجمبو)، فما هو قصدك من ذلك؟
قصدي من ذلك أني سافرت في طفولتي مع أهلي على ظهور الحمير، ثم أتيح إلي أخيرا أن اركب طائرة الجمبو.
ومعنى هذا أني شهدت خلال سنوات حياتي التي زادت عن الثمانين هذه الطفرة الاجتماعية التي حدثت في العراق، إذ هو كان يعيش في أثناء طفولتي في فترة انعزال حضاري ثم صار الآن يخوض عباب الحضارة الحديثة المليئة بالمفارقات والعجائب.
-هل في رأيك أن المجتمع العراقي نجح في خوض عباب هذه الحضارة؟
يؤسفني أن أقول أن القيم القديمة التي كانت سائدة في مجتمعنا في الماضي ما زالت تلعب دورها في بعض نواحي هذا المجتمع، وقد اصبح من الواجب علينا أن نكافح تلك القيم ونحاول تقليصها بمقدار جهدنا لكي نستطيع السير في طريق الحضارة الحديثة.
-ان الحضارة الحديثة فيها عيوب وجوانب سلبية كثيرة فهل تريد منا ان نقتبس هذه الحضارة بكل ما فيها من عيوب وسلبيات؟
ـ ليس لنا خيار في ذلك، فالحضارة الحديثة تيار جارف لا محيص منه ونحن إذا أردنا الحياة في هذا العصر وننجح فيه وجب علينا الانسجام معه بكل ما فيه. ان موقفنا تجاه الحضارة لايمكن أن يكون كموقف الذي يشتري الفاكهة من دكان البقال حيث يختار منها ما يشاء ويرفض ما يشاء.
-ما هو انطباعك العام عن بلدة الكاظمية التي نشأت فيها؟
الكاظمية تتميز بصفتين إحداهما أنها مزار ومركز ديني والثانية أنها قريبة من بغداد التي كانت وما زالت ملتقى الحضارة الحديثة، ولهذا فان المتعلم الكاظمي قد يعاني شيئا من الصراع بين القديم والحديث، وهذا هو ما عاناه داعيكم الفقير إلى ربه.
-الرجاء ان توضح لنا شيئا من هذا الصراع الذي عانيته؟
كان بين الكاظمية وبغداد في أيام شبابي نوع من الترام تجره الخيول، وكنت كثيرا ما اركب هذا الترام لكي اذهب إلى بغداد فاشتري من سوق السراي بعض المجلات المستعملة ولاسيما المجلات المصرية كالهلال والمقتطف.
فقد كنت مولعا كل الولع بهذه المجلات. وفي الوقت نفسه كنت اقرأ بعض الكتب القديمة التي كان والدي مولعا بقراءتها ويحتفظ بمجموعة منها، وكنت كذلك احضر مجالس التعزية، وقد احدث ذلك فيّ شيئا من الصراع بين القديم والحديث، وهو الصراع الذي ما زلت اعاني من بقية منه حتى الان.
-يقول بعض النقاد عن أسلوبك في الكتابة انه عاطل عن البلاغة والجمال وانه يشبه أسلوب الإعلانات فما قولك في هذا؟
لا احب أن امدح أسلوبي ولكني مع ذلك أستطيع أن أقول انه الأسلوب السائد في الحضارة الحديثة، وهو الذي أطلق عليه سلامة موسى صفة (الأسلوب التلغرافي) وكان يقصد به أن يكون اللفظ فيه على قدر المعنى بلا زيادة او نقصان. وهذا طبعا يخالف ما اعتاد عليه كتابنا في الماضي أي أسلوب السجع والمزاوجة والمبالغة والألفاظ الرنانة. وهذا أسلوب يصلح للشعر إنما هو لا يصلح للنثر كما لا يخفى عليك.
-يقال انك كنت تميل إلى الشعر في شبابك وقد نظمت فيه بعض القصائد، فما هو السبب الذي جعلك تغير رأيك في الشعر مؤخرا؟
لا أنكر أن الشعر فن عظيم وله وظيفته في الحياة ولكن المشكلة أننا أوليناه من الاهتمام اكثر مما ينبغي، ان الشعر يميل إلى المبالغة في وصف الأمور، فهو إذا مدح شيئا او شخصا جعله كاملا مليئا بالمحاسن وليس فيه أي سوء، أما إذا ذمه فهو يجعله سيئا من كل جانب لاخير فيه. ولاحاجة بنا إلى القول أن هذا لا ينسجم مع المنهج الموضوعي الذي يسود في الحضارة الحديثة، لان كل شخص او شيء لايمكن أن يكون كاملا ولابد أن تكون فيه جوانب سلبية وإيجابية في آن واحد. ان هذا هو الذي جعل الشعر تقل اهميته في المجتمعات المتحضرة.
-الملاحظ انك تكثر في كتاباتك من ذكر سلامة موسى، ورأينا انه في بعض كتبه يذكرك ايضا. فما هو السبب في ذلك؟
كنت في بداية شبابي شديد الولع بكتابات سلامة موسى، وأني احتفظ في مكتبتي بكتبه جميعا، ولكني الآن اختلف معه في بعض آرائه وذلك على الرغم من إعجابي بأسلوبه في الكتابة. انه كان فرويديا في تفكيره كما كان يشجب علم الخارقية ـ أي الباراسيكولوجي ـ ويعده من الخرافات الباطلة. وهذان آمران لا أوافقه عليهما.
-لماذا لا توافق سلامة موسى على هذين الآمرين؟
اتضح الآن علميا أن نظرية فرويد ليست كلها صحيحة على نحو ما كان الناس في حينها يعتقدون ان فرويد كان مبالغا كل المبالغة في أهمية العامل الجنسي في الإنسان. وهو يشبه في ذلك كارل ماركس الذي كان مبالغا كل المبالغة في أهمية العامل الاقتصادي. أن العامل الجنسي والعامل الاقتصادي هما من جملة عوامل عديدة تلعب دورها في حياة الإنسان. أما علم الخارقية ـ أي الباراسيكولوجي ـ فقد اصبح الآن علما معترفا به في جميع أقطار العالم.
-لدينا في العراق بعض الكتاب هم كسلامة موسى يشجبون علم الخارقية ويعدونه من الخرافات والخزعبلات. فما قولك في الرد عليهم؟
ليس لي عليهم رد وليس من المستحب مجادلتهم فاني أتذكر حادثة في العشرينات وهي ان رجلا اعتدى على آخر لانه عده كافرا بسبب قوله أن المطر من البخار. وقد صدر في ذلك الحين كتاب عنوانه (السيف البتار على الكفار الذين يقولون المطر من البخار). أن مؤلف هذا الكتاب والرجل المعتدي لا يختلفان في مستوى تفكيرهما عن الذين يشجبون اليوم علم الخارقية. وقد رأينا من أمثالهم كثيرين في مواضيع مختلفة.
ان من شرائط المفكر العلمي ان يكون مفتوح الذهن تجاه كل أمر جديد يخالف مألوفاته ومفاهيمه القديمة. ان الدراسة الموضوعية هي التي يجب ان تكون الحكم في الامور الجديدة سلبا او ايجابا.
-يقول عنك بعض الناس انك خسرت دنياك وآخرتك معا فما هو جوابك عليهم؟
اسأل الله تعالى ان يجعل الذين قالوا هذا القول هم الذين خسروا دنياهم وآخرتهم. آمين يارب العالمين.
-لماذا لا توافق على المثل المتداول بين الناس وهو قولهم: (الذكر بعد الموت عمر ثان)؟
أن الذكر لاينفع الإنسان بعد موته فان الدود سوف تأكله سواء أكان مشهورا او مغمورا. أما حساب الله في الآخرة فهو يختلف عن حساب الناس في الدنيا، ورب مغمور هو افضل عند الله من ألف مشهور.
-ما هو اسعد وقت مر بك في حياتك؟
ان اسعد وقت مرّ بي في حياتي كان في عام 1932 عندما انتقلت من مهنة العطارة إلى المدرسة، فقد كان ذلك نقطة تحول كبرى في حياتي. وإذ تسألني عن السبب في هذا التحول أقول انه مجموعة من المصادفات والظروف التي لاارادة لي فيها ولاخيار. واستطيع أن أقول ان كثيرا من الناس هم مثلي في ذلك اذ هم نتاج المصادفات والظروف في كثير من أمورهم. وهذا هو السبب الذي جعلني اضع مذكراتي بعنوان (ريشة في مهب الريح).
-الذي نعرفه عنك انك تريد ان تصدر مذكراتك بعد موتك وليس قبله فلماذا؟
ان مذكراتي تحتوي على صراحة لايستسيغها الناس. ولاتنس اني عانيت ما عانيت من الناس عند إصدار بعض كتبي الماضية، وقد جرت محاولتان لقتلي ذات مرة ولكن الله أنجاني منهما. هذا مع العلم أن مذكراتي تضم من الآراء الصريحة اكثر مما ورد في كتبي الماضية. ان الناس سيغضبون كل الغضب عند صدور مذكراتي، ولست أبالي بذلك لان الدود لاتفرق بين من يترحم عليه الناس او من يسبونه.
-ما رأيك في المجمع العلمي العراقي؟
افضل السكوت!
-ما هو البيت الذي تردده مع نفسك دائما؟
ما مضى فات والمؤمل غيب
ولك الساعة التي أنت فيها