اثبت العراقيون ،على غير مايشاع عنهم، فهما من طراز خاص للمعنى العميق للديمقراطية، فلم يسبق لاي شعب من شعوب المنطقة، بل وفي مايسمى البلدان النامية ان يتظاهر بالكيفية والصورة اللتان تظاهر بهما الشعب العراقي في جمعتين متواليتين في بغداد والمحافظات الاخرى، على الرغم من بعض الاشتطاطات الحادثة هنا وهناك، وشاهد العالم جموع المتظاهرين ترفع لافتاتها بيد وورود باليد الاخرى وبنحو منظم، وكانت تحمل مطالب محددة ابرز سماتها نقابية وليست سياسية، كما سمع العالم اجمع فحوى هتافاتهم التي برهنت عن اولوية انتمائهم الى الوطن وليس حتى الى اية جهة اخرى حزبية او اثنية او دينية او غيرها من الجهات.
ومن يعود الى تاريخ التظاهر في العراق يجد ان آخر تظاهرة مطلبية سلمية حدثت في العام 1948 فيا سمي آنذاك بوثبة الجسر، والفارق مابين زمن وثبة الجسر وزمن جمعتي الغضب والكرامة في العام2011 اكثر من ستين عاما تخللتها تظاهرات تأييدية تفبركها الانظمة لأظهار نفسها بمسحة ديموقراطية، ويمكن ان نخلص الى نتيجة مؤداها عودة الوعي بالذات العراقية لشعبنا الذي غيبت مواطنته عقود ثقيلة من القهر والطغيان، ولما توالت التظاهرات اكدت ان هذه العودة الميمونة للوعي بالذات او وعي الهوية كما يدعوها البعض غادرت ماضنه البعض حالة تشرذم في الهوية الوطنية العراقية التي بدا انها تصدرت المشهد الى حين من الزمن، فقد تألفت جماعة التظاهر في الجمعتين الآنفتي الذكر من عراقيين فقط من دون يافطات مذهبية او عرقية او حتى حزبية، واتشحت بوشاح اللبرالية والوحدة الوطنية، الامر الذي ينعش الآمال بالنسبة للمحبطين بشأن مستقبل العراق ووحدته.
هذا ملمح من مقطع عرضي للحالة العراقية الراهنة فيما الملمح الاخر والذي يأخذ صفة النقيض ويتمثل في السلوك الحكومي الشاذ في التصدي وبنحو مفرط للمتظاهرين من قبيل اعلان حضر التجوال والذي منع الالاف من الراغبين بالانظمام الى التظاهرة واغلق وبنحو شبه تام صوب الرصافة حيث ساحة التحرير ومنع اهالي الكرخ معظمهم من عبور الجسور المؤدية الى الساحة، وكذلك حضور افواج ضخمة من القوات الامنية مابين مغاوير داخلية وحرس وطني ومكافحة شغب ومدنيين منتسبين لاجهزة امنية، انبثوا وبنحو كثيف بين صفوف المتظاهرين ما شحن الجو العام لنهاري الجمعتين بتوتر انتج بعض مظاهر العنف المحدودة..
ويمكن لنا التوصل الى خلاصة ان هلع الحاكم كان بائنا بنحو كبير الامر الذي يؤكد عدم خلاص الطبقة السياسية العراقية من براثن المنظومة العقلية الاستبدادية وبصورة فاضحة، فيما ارتقت جموع المتظاهرين المكونة من شرائح متفاوتة بوعيها الديمقراطي السلمي وكما اسلفنا..