بين التصريح والتلميح
مقالة نشرتها وكالة أنباء المستقبل العراقية للصحافة والنشر (ومع)
كاظم فنجان الحمامي
الويل ثم الويل لكل كاتب أو صحفي يرتبط وظيفيا بالمؤسسات الحكومية في بلاد (الواق واق), والويل والثبور لمن كان موهوبا في الكتابة, وبارعا في الوقت نفسه بمهنته الوظيفية التخصصية, فالجمع بين الاثنين يعد من المجازفات الإدارية التي لا تحمد عقباها, ففي بلاد (الواق واق) يحق لمثل هذا الكاتب أن يكتب ما يشاء في المواضيع البعيدة عن بيئته الوظيفية.
فإذا كان الكاتب موظفا في المركز الطبي للإقليم الريفي في الواق واق, فان توجيهات مدير المركز لا تجيز له الكتابة عن الفيروسات وأنواعها, ولا عن تاريخها ومخاطرها, لأنها تعد من الأسرار الوظيفية الخطيرة, وغير مسموح له بتوعية الناس وتحذيرهم من الآثار السلبية للأمراض المستوطنة أو المستوردة, فكلاهما من خصوصيات المركز, ولا يحق له البوح بها أبدا, وبخلاف ذلك فانه سيقحم نفسه في مشاكل أدارية شديدة التعقيد, ويعد في نظر أولياء الأمر منتهكا لأحكام قانون انضباط الدولة, وسيتعاملون مع مقالته الفايروسية على أنها تسريب متعمد لأسرار المركز الطبي, ويعدونها تصريحا إعلاميا يضر بمستقبل البلاد والعباد, ويسيء للقضية المصيرية في ظل ديمقراطية الخوف والاستبداد, والويل لمثل هذا الكاتب إذا عبّر في كتاباته عن وجهة نظره الشخصية في شأن من شؤون مكافحة الفيروسات والتصدي لها, فتلك مهمة خاصة من المهمات الإستراتيجية المرتبطة بالأمن الصحي, حتى صار الكاتب الموظف يستغني عن التصريح بالتلميح, ويكتفي بالإشارة عن العبارة, وهناك الكثير من الأمثلة المقتبسة من الواقع لا سبيل إلى التطرق إليها الآن بالشرح والتوضيح, لكننا لا نفهم حتى الآن مسوغات المنع. هل هي لحماية المؤسسة الإدارية ؟, أم لحماية الغير من الأذى ؟, أم أنها عادة وظيفية موروثة ؟.
لقد تكاثرت في تلك البلاد الجهات التي صارت متخصصة بهندسة المنع وتكنولوجيا التكتيم والتعتيم, حتى بات من الصعب على الكاتب تحديد هوية الجهة, التي يحق لها ممارسة المنع, هل هي سلطة مفردة, مثل المؤسسة الرسمية أو الدينية ؟, أم الكيانات السياسية الكبرى والتشكيلات الإدارية العليا ؟, وهل الغرض من التكتيم حجب الحقائق وإخفائها بحيث لا تتسرب من قنوات المجهول إلى بحار المعلوم ؟, أم الغرض منه فرض السكوت المطبق, وتكميم الأفواه, بحيث لا تنتقل الحقائق من المعلوم الضيق إلى المعلوم الأوسع ؟, وقد تتراكم القيود الاحترازية بحيث يصبح من المتعذر الإفصاح عن الممنوع بأنه ممنوع, رغم علم الجميع بأنه ممنوع, والعجيب بالأمر أن حالة المنع تتغير بتغير الزمان, وتتبدل بتبدل المكان, لكن الأعجب منه هو اشتراك عشرات الجهات في فرض حالة المنع على مكان واحد, رغم أن هذا المكان مفتوح على مصراعيه للجميع, حتى يصعب على المرء تحديد الجهة المعنية بأمن المكان, وأحيانا تتعمد بعض الجهات غير المعنية فتحشر نفسها في ما لا يعنيها, وتتظاهر بأنها تمتلك السلطة المطلقة في فرض الممنوع وتضييق الحريات الصحفية. ما اضطر معظم الكتاب إلى تفضيل التلميح على الكلام الصريح, خصوصا بعد أن وجدوا ضالتهم في خلط التجريح بالتلميح فاستغنوا عن التصريح والكلام الفصيح, فالذين تسلحوا بالشجاعة الزائفة, وتدرعوا بالأسماء المستعارة, واختبئوا خلف المجهول, واستخدموا أدوات التجريح والتفخيخ والتلطيخ العلني المباشر, فهؤلاء تصريحاتهم مشطوبة, وتجريحاتهم محجوبة, ولا قيمة لها البتة.
أما اشد المواقف المحيرة التي يواجهها الكاتب فتتجسد عندما يتعامل في كتاباته مع حواجز الإدارات الغبية, وخنادق ذوي السلوك الانطوائي, الذين اثروا الصمت, وأعلنوا مقاطعة وسائل الإعلام كلها, وانبطحوا تحت أقدام نعامة مذعورة دفنت رأسها بالوحل, فهم ليسوا على استعداد للتحدث حتى عن انتصاراتهم المحدودة المتواضعة, ويمكن تفسير هذه التصرفات الغريبة على أنها من إفرازات الفشل والتخاذل, وتعكس رغبة البعض للاختباء في العتمة, بيد أن اشد ما يزعجني ويحزنني في الوقت نفسه, هو تلك المواقف الاحترازية البليدة, التي ماانفكت تشهر أسلحة التكتيم والتعتيم بوجه أصحاب الأقلام الحرة, وماانفكت تعلن الحرب الضروس على الأصوات الوطنية الصادقة من دون أي مبرر.