ربما كنت في السادسة او الخامسة من عمري وربما كنت اصغر من هذا او اكبر عندما كانت والدتي تنزل من سيارة الركاب العالية بسرعة لتلصق كفيها تحت ابطي وتساعدني في النزول أنا الاخرى. كانت تأخذ انفاسها عندما تختفي السيارة ثم ترفع رأسها نحو الافق حتى يقف بصرها عند صرح معماري ذا قبب ومنارات مصنوعة من الذهب تخصها والدتي بعبارات الترحيب والثناء. الوصول الى ضريحي الامامين موسى بن جعفر ومحمد الجواد اللذان يفصلنا عنهم مسافة المئتين مترا يزداد عسرا كلما مدت امي خطواتها بأتجاه المقام وزادت قوتها بالشد على معصمي خوفا علية من الضياع وسط الزحام. الشارع الذي اغتال السواد بهجته يغرق بالناس في يوم عاشورا.لافتات سوداء علقت فوق سطوح الابنية وقدور عملاقة تجلدها النيران منذ مساء الامس. الزي الاسود ساوى بين ابناء المدن اما هؤلاء القادمين من القرى والنواحي فقد ميزهم بعض الطين الجاف حول اقدامهم وغبار غطى محياهم. كان عقلي لايزال طريا لتفسير ما يدور حولي لكن حسي كان ناضجا مثمرا بالخوف منه. صوت الشيخ عبد الزهرة الكعبي القادم من مكبرات الصوت يملئني حزنا ويجعلني اجهش بالبكاء طالبة من امي مغادرة المكان والعودة الى البيت. من الصعب جدا لطفلة في مثل سني رسم صورة متكاملة وواضحة لما يدور حولها بلون كئيب واحد هو الاسود وربما بعض من الاحمر القاني مصدره الذبائح المنحورة على امتداد الطريق. أرتطم وجهي بأفخاذ الرجال والنساء عندما دخلت والدتي المقام ثم تقدمت نحو ستارة عالية كستارة المسرح وضعت هناك للفصل بين الرجال والنساء وما ان وضعت يدها على الستارة لرفعها شعرت وكأنها شدت على قلبي وخلعته من صدري معها. دائرة تشكلها عشرات النساء النائحات وفي مركزها يقف بعضهن عاريات الصدور ناثرات الشعور يضربن اجسادهن بايقاع يشبه قرع الطبول اثناء الحروب. في زاوية قصوى تقف احداهن على شئ عالي كنت ارمقها بحقد طفولي لانني كنت اظن بأن عباراتها المغناة بصوتها الحزين المبحوح هو ما يدفع تلكم النسوة لتعذيب انفسهن. أرفع رأسي لأمي أسألها ولكنها لا تصغي لتساؤلاتي لانها على عجلة من امرها تخترق الصفوف لتفوز بمكان تلوذ فيه وتضعني امامها. عندها اعلن استسلامي وأظل اراقب الوجوه وانتظر اللحظة التي يأخذ فيها التعب تلك المرأة فتجلس على كرسيها ويجلس بقية النساء بعدها ارضا ثم تغير ايقاع عباراتها للحن يشبه ترانيم الامهات.كانت والدتي لا تتقن فن اللطم لكنها كانت سخية بذرف الدموع. اجلس مع امي على الارض ثم اتمدد واضعة رأسي في حجرها بعد ان ارهقني الخوف والتعب ثم اتوجه برأسي نحو سقف المقام المزين بالمرايا وثريات الكريستال لأحلق في حلم ملون كألوان طيف الضوء المنعكس على حبات الكريستال. تأخذني الغفوة التي لا استفيق منها الا عندما يخترق صوت الضجيج والقارئ عبد الزهرة الكعبي مسمعي من جديد. أفتح عيني لاجد رأسي يرقد على كتف أمي التي تحملني بعناء وحذر كي لا افز من غفوتي حتى تعود الى البيت.
مرت الفصول وصار كتفي يرتطم بأكتاف الرجال والنساء لأفسح المجال امام والدتي التي غلبها السن والمرض كي تواصل طريقها نحو الضريح وتمارس طقوسها التي اعتادت عليها في يوم عاشوراء. ارفع الستارة الخضراء واقودها الى ركن تجلس فيه وتسمع ثم اقف بجانبها أتطلع الى الوجوه التي أختلفت كأختلاف عيناي التي هجرها الخوف وسكنها الجدل. أذكر مرة حدثتني فتاة عن شعرها الذي كان يتساقط فعاد الى اول عهده بعد ان رمت خصلات منه في نار القدور. ومرة توعدتني احداهن بالعنوسة لاني اقف جانيا لا افعل ما يفعلن الاخريات في عزاء الزهراء على ولدها الحسين. اما اخر مرة فقد ضُربت كفين وانقدت الى خارج المكان بعد ان اقتنصت الملاية ضحكاتي الساخرة على عبارات ساذجة قالتها عن لسان زينب بنت علي ابن ابي طالب لأخيها العباس. وهكذا مرت بي الايام وظل يوم عاشورا قصص وحكايات تحتل ركناً من اركان الذاكرة حتى كان يوما كنت اجلس في البيت وحدي ابحث عن مصدر للتسلية فوقع نظري على كتاب كتب عليه بالخط الكوفي وماء الذهب سيرة ابن كثير. اخذت الكتاب واستلقيت لاقرأ التأريخ بعيدا عن الخيال. تجولت بين الصفحات حتى وصلت الى خروج الحسين ابن علي الى ارض العراق مرورا بواقعة الطف والسبايا. انهمرت دموعا سخية كدموع امي في يوم عاشورا على السطور وتداخلت الذكريات مع الحقائق التأريخية والعلمية في جدل فلسفي طويل وشاق. عقل يرفض الحكايات الخيالية المُستجدية للحزن والدموع. وحقائق تأريخية تستفز عاطفتي الانثوية وتدفعني للأنين على الحسين وما حدث له ولنخبته. صراع بين الخرافة والمنطق, البساطة التي تدنو الى حد السذاجة والارتقاء الذي يسمو الى عمق الحدث. ملحمة لا تشبه الاخريات في عمقها الفلسفي ,منطقها الاستفزازي واحداثها التي تأخذك على حصان حر جامح لا الى مكان سوى الافق البعيد حيت تكون جمهورية حسينة مثالية. أرهقني الجدل وتذكرت حجرامي الذي كنت اغفو فيه فأخذتني الغفوة وحلقت بي الاحلام من جديد. وجدتني واقفة عند الضريح ذا التكوين الفضي المزخرف وقبضتاي ممسكتا به تشد عليه بقوة كقوة امي عندما كانت تشد على معصمي خوفا علية من الضياع . من ثقوب الضريح يخرج ضوء اخضر يخترق جسدي ليتلاشى عند ظل رجل معمم يرتدي السواد. كان يقف خلفي يفسح الطريق الي لاواصل دوراني حول الضريح. فززت من غفوتي فوجد سيرة ابن كثير لازالت تجثو على صدري. نظرت اليها وقلت اه يا امي لقد عرفت الحسين من الحسين ذاته.
منقول من
كافي علي
مما راق لي