.
- طبيعة القيادة – المفهوم والتعريف
- خصائص القيادة – المزايا والعيوب
- المقاومة العراقية وأزمة القيادة

طبيعة القيادة – المفهوم والتعريف

لا يمكن تصور عملا ما ، قابلا للانجاز من دون منظومة قيادة ، فالقيادة والانجاز توأمان لا ينفصلان ، ولتصوير أهمية منظومة القيادة يمكن تشبيهها بالعقل / الداينمو, ذلك الجزء الصغير الفائق الأهمية الذي تقع على عاتقه مسؤولية التفكير واختيار البدائل ومساعدة وتحفيز بقية الأطراف على أداء وظائفها ومباشرة واجباتها بتنسيق تام وانتظام ، سواء أكان ذلك بصورة جزئية منفردة أو بصورة عامة شمولية .

وبقدر تعلق الأمر بهذه الدراسة ، فإن المقتربات النظرية لهذا المبحث ستكون مقترنة بما يخدم فكرة المقاومة ، وسيكون بشقين ، سيتناول الشق الأول تعريف القيادة وأهم خصائصها وواجباتها وآليات اختيار القادة فيها ، مزاياهم وعيوبهم ، وقبل ذلك تمييز مفهوم القيادة عن مفاهيم أخرى مقاربة ، كثيرا ما تختلط وتتشابك من حيث الاستخدام وفي مقدمتها الإدارة ويتعلق الشق الثاني حصرا بأزمة القيادة في حركة المقاومة العراقية .

يمكن تعريف القيادة على إنها (القدرة على لعب دور رئيسي ، والقابلية على ممارسة التأثير على الآخرين عبر امتلاك ميزات ذاتية كامنة مدعومة بمؤهلات مكتسبة ، لإنجاز أهداف ومهام محددة في إطار منظومة عمل متكاملة ) ، وهناك من يعرفها على إنها قدرة التأثير على سلوك الآخرين وحثهم على القيام بأنشطة يرغبها القائد .

وللتمييز بين مفهومي القيادة والإدارة حيث يتم الخلط بينهما كثيرا ، فإنه يمكن القول إن كل قائد مدير ولكن ليس كل مدير بالضرورة يكون قائدا، فالمدير يستمد صلاحياته من خارجه ، في حين يستمد القائد قوته من صفاته الذاتية الكامنة ، كما إن المدير يمارس سلطاته وتعليماته من خلال حزمة من الأنظمة والتعليمات لا علاقة لها بمدى رضا أو قبول وقناعة المرؤوسين ، في حين يحكم الرضا والقبول والقناعة والشعور العالي بالواجب نمط العلاقة بين القائد ومرؤوسيه وبدون هذه العلاقة يفقد القائد قدرته على التأثير .

وفي الوقت الذي تستطيع فيه لوائح وقوانين الإدارة تغيير المدراء ، فإن القيادة أمرا آخر لا يمكن حيازته عن طريق الأوامر الإدارية والتعيين وإنما عبر تضافر عدة عوامل ما بين عناصر ذاتية تتعلق بشخصية القائد إضافة إلى ظروف خاصة, فقد يتواجد قائدا ولا تتهيأ له الظروف اللازمة لممارسة قدراته القيادية .

كما تعد الرئاسات والزعامات والمرجعيات والرموز أنماط لا علاقة لها بمفهوم القيادة المقصود في سياق هذه الدراسة حيث تقاس فيها القيادة بدلالة الانجاز ومدى ارتباطها بفن الإستراتيجية ، فقسم من هذه الرئاسات عدا عن مفهوم الإدارة التي تم شرحها آنفا ، إنما يتحقق إما عبر تقليد الوراثة أو بالتعيين أو يتم اختيارها عبر طقوس دينية معينة ، وكثيرا ما يرد في هذا السياق سؤالا محيرا وهو بماذا يمكن تفسير التأثير الطاغي والحاسم الذي تمارسه بعض المرجعيات أو الرموز أو الزعامات على ملايين من الكتل البشرية وتحركهم يمينا أو شمالا ، ويحصل ذلك على الرغم من إن خصائص هذا الرمز أو المرجع لا ترتقي إلى مستوى مقبول من معايير القيادة القائمة على مواصفات شخصية عالية ومؤهلات مكتسبة ؟

للإجابة على هذا السؤال لا يسعنا إطلاق صفة القيادة بدلالة التأثير على نمط هذه العلاقة وإنما هي نوع من العلاقة العاطفية وأحيانا الغوغائية ( demagogue ) حيث يتم تحريض الجمهور من قبل زعيم أو شخصية ديماغوجية على القيام بسلوك غير متوازن أو غير قانوني من خلال التفوه والتثقيف والوعود بأقوال غير عقلانية وخطابات تلهب مشاعر الناس وتستفزهم عاطفيا وتثير فيهم عقد وهمية ، فعندها يصبح الجمهور مجموعة من الرعاع الخارجة عن القانون أو تكون أشبه بالقطعان ، لا علاقة لها بمفهوم الجماهير ، وتتكرر هذه الحالة في الشعوب والتي تعاني من البؤس والشقاء والتخلف ونقص الوعي ، ويمكن تقريب هذا النموذج في العلاقة بين طرفين غير متكافئين في التأثير والتأثر ببيت من الشعر العربي.

الناس تسجد للأصنام تعبدها من حطة الناس لا من رفعة الصنم

تتكون القيادة من ثلاث عناصر : القائد ، الإمكانات، والهدف ، وهي بذلك تكون مفهوما مقاربا ومرتبطا بالإستراتيجية, التي تعني بدورها " فن تحقيق الأهداف السياسية "، ومن الجدير بالذكر في هذا الصدد إن الأهداف السياسية العليا للإستراتيجية لا يحددها القادة بل المفكرين والسياسيين, لذلك شهد التأريخ أفكارا عظيمة ظلت حبيسة الورق إلى أن تسنى لها قائدا وظرفا مناسبا فتحولت إلى واقع ملموس . وعلى ضوء تصنيف الإستراتيجية إلى إستراتيجية شاملة ، تنبثق عنها إستراتيجيات فرعية متخصصة ، فإن منظومة القيادة تتوزع بدورها طبقا لهذا التصنيف ، فينشأ قادة كبار على مستوى الإستراتيجية الشاملة, كما يتوزع قادة على مستوى الاستراتيجيات الفرعية ، كل حسب اختصاصه, فهناك إستراتيجية عسكرية تتطلب قادة عسكريين وإستراتيجية سياسية تتطلب قادة سياسيين, وإستراتيجية إعلامية ، على أن يعمل الجميع بتناغم وانسجام كل من موقعه في الإستراتيجية الشاملة .

صفات وخصائص القيادة

هناك نظريتان في صفات وخصائص القيادة ، الأولى تقول إن القادة يولدون ولا يصنعون ، في حين تقول الأخرى إن القادة يصنعون أكثر مما يولدون ، وفي اعتقادنا إن القيادة مزيج فريد ما بين الحالتين ، فهي هبة ذاتية تولد بالفطرة مع البعض ، لكنها تصقل ويتم تنميتها بالممارسة والاكتساب ، وهذا ما يسمى في فن القيادة بتوفر "الكاريزما* "charisma أو الهبة الربانية في القدرة على التأثير والتي تولد مع الإنسان ولا يمكن اكتسابها فالبعض بكل بساطة ولدوا للقيام بدور القيادة .

في نفس الوقت هناك أفرادا أكفاء ولكنهم لا يصلحون للعب الدور الأول بل تجدهم فعالين وأكثر كفاءة عندما يلعبون دور الشخص الثاني أو الثالث في منظومة القيادة. وهنا تأتي الظروف والفرص لتشكل عاملا حاسما في بروز القيادات ، فقد يمتلك شخص ما مؤهلات قيادية عالية ولكنها تضيع وسط الظروف العادية التي تتساوى فيها الفرص وتضيع الفروقات ، في حين تشكل الظروف والمواقف الاستثنائية والطارئة وأحيانا الصدف مناخا خصبا لتجلي صفات القيادة وتألقها ما بين الأقران ، ويشكل الإطار والهيكل الذي يتم فيه التفاعل بين القيادة والأطراف أمرا لابد منه لضمان كفاءة عمل منظومة القيادة .

كما إن هناك خصائص قيادية كلما تكاملت وتجسدت في شخصية القائد كلما أصبح أكثر تأهيلا و استعدادا وقدرة على تحمل المهام الإستراتيجية الكبيرة في ظل الانعطافات المهمة والحاسمة من تاريخ شعوبهم:

اولا : معايير عالية من جودة المواصفات الشخصية المتميزة ، كالتمتع بمستوى من الذكاء لا يقل عن مستوى ذكاء الجماعة التي يقودها ، إضافة إلى حزمة من مكارم الأخلاق كالاستقامة والعفة والكرم والتسامح والتواضع ، وفي نفس الوقت الشجاعة وعلو الهمة وشدة المطاولة والإرادة الصلبة والحزم والصدق ، كذلك التمتع بالاتزان العاطفي والنضج العقلي ، إضافة إلى قوة المنطق وطلاقة اللسان وحسن التعبير .

ثانيا : الإيمان بمبدأ الشورى من خلال آليات مؤسساتية تعمل بنظام وليست تلقائية وعفوية لضمان تبادل الآراء صعودا ونزولا ، وذلك من خلال تحديد وتوضيح وتوزيع الصلاحيات والواجبات لضمان عدم تداخلها ولتفادي حصر دائرة صنع القرار بالحاشية المقربة التي غالبا ما تصبح بعد حين فاصلا وحاجزا سميكا فينظر القائد بعيونهم ويسمع بآذانهم ، وعلى القائد أن يتحلى بالصبر في تحمل الانتقادات برحابة صدر والإجابة على أية أسئلة أو علامات استفهام قد تنشأ لدى الآخرين بين الحين والآخر . في تجربة المقاومة الفيتنامية ضد الاحتلال الأمريكي كانت القرارات تنفذ حسب السياقات الديمقراطية ويشترك فيها المقاتلين فإذا كانت القرارات خاطئة فالمسؤولية تكون جماعية ، أما إذا أخطأ القائد في التطبيق فإنه يستبدل بغيره .

ثالثا : إمتلاك القابلية والقدرة من خلال الإيمان الصادق بعدالة القضية التي يقاتل من أجلها وبحتمية النصر, على تحويل الهزيمة واليأس والإحباط في نفوس الآخرين نتيجة الفشل ، إلى حافز للعمل وإصرار على استعادة الثقة بالنفس تمهيدا لإنجاز وتحقيق النصر, وهنا يبرز نموذج من تاريخنا الإسلامي يتمثل في معركة أحد التي هزم فيها المسلمون ، وكان من أسباب الهزيمة عدم طاعتهم لأوامر الرسول ومخالفتهم لتعليماته في أشد مراحل المعركة ، ورغم إن الخطأ كان فادحا وآثاره كبيرة ، نزلت آية قرآنية تعد فصل رائع في علم النفس والقيادة في هذه الآية يطلب من الرسول يعفو ويسامح المسلمين الذين أخطئوا ، بل ويطلب رغم كل الذي جرى أن يشفع لهم من خلال الاستغفار لهم والغريب بالأمر يطلب منه أن يعود ليشاورهم في الأمر :
( وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ) – 159 - سورة آل عمران
رابعا: القائد الجيد هو الذي يكون بعيدا جدا عن التهور ، ويمتلك مستوى عال من ضبط النفس ، ولا يبدأ الحرب ويتخذ قراراته فيها بناء على العاطفة والمزاج الشخصي وآلية الفعل ورد الفعل ، ويتعامل مع شأن الحرب بحذر كبير ، لان المعارك لا تخاض ببساطة ، فالقائد الغاضب قد يستعيد هدوءه ومزاجه ، أما البلدان التي تفنى وتموت نتيجة الحروب فلا يمكن استرجاعها .

خامسا : القائد الاستراتيجي ينظر إلى ما هو أبعد من تحقيق النصر العسكري ، فيؤسس للنصر السياسي ويخطط لكيفية تصفية الآثار الناجمة عن الحرب ، ويتميز بنظرة شمولية تتعدى اللحظة والتفاصيل التي عادة ما ينشغل فيها التنفيذيون وتتعلق بالمشهد الكامل الذي تترابط فيه كافة الخيوط والجهود المادية والنفسية وتتكامل فيه الخطط والاختصاصات الفرعية .

سادسا: إمتلاك الرؤيا الثاقبة القائمة على التقدير الجيد والتنبؤ بما يؤهله على تقدير النتائج مسبقا مع تمتعه بهامش من الإقدام وعدم التردد في المجازفة والمخاطرة المحسوبة التي لابد منها أحيانا لعبور المواقف الصعبة التي تستلزم اتخاذ قرارات صعبة في وقت قياسي, عندما يستكمل القائد جميع مقومات ومستلزمات وعناصر اتخاذ القرار الصائب والصحيح ، عليه أن يندفع " كالسهم المتحرر من القوس " منطلقا باستقامة إلى الأمام وعندما يريد القيام بخطوة حاسمة ونهائية يتوقف عليها مصير المعركة يجب أن يحرق جميع قواربه .

سابعا: يذكر " صن تزو " وهو مفكر إستراتيجي صيني ، مواصفات القائد الاستراتيجي ، من خلال المعادلة والقاعدة التالية التي لم تسقط رغم مرور أكثر من 2500 سنة :

( أعرف عدوك وأعرف نفسك تستطيع أن تخوض مائة معركة دون أن تتعرض للخطر ، أما إذا كنت تجهل عدوك وتعرف نفسك فقط عندها ستكون أمامك فرص متساوية للنصر والهزيمة على حد سواء ، وإذا كنت جاهلا بعدوك ولا تعرف نفسك فخسارتك في كل معركة ستكون حتمية لا مفر منها).

ثامنا :العيش وسط الجماهير والالتحام بهم واكتساب ثقتهم وتنفس هواءهم, ولا يمكن إطلاق صفة قائد على شخصية يتقدم عليه أفراده في إرادة التضحية .

تاسعا : يكتسب القائد هذه الصفة والمنزلة جراء ثقة الآخرين به ، وينتخب فعلا ويتقدم الصفوف ويثبت بالتجربة كفاءته ، وفي اللحظة التي يفقد فيها ثقة رجاله يعزل من القيادة ، ويجب استبدال القادة الذين تعرضوا لهزيمة ، بقادة جدد وذلك حفاظا على المعنويات .
تعد المزايا أعلاه خصائص رئيسية للقيادة وهناك عشرات من الحلقات الثانوية المكملة والتي على أساسها تتفوق منظومة قيادة ما لانجاز مشروع على منظومة قيادة أخرى ، ومن الخصائص المكملة على سبيل المثال المساواة في المعيشة والامتيازات لأنها تعزز من مصداقية القائد ، وكذلك حب القائد لمعيته ومعاملتهم كأخوة له وأبناء ، وفي الحقيقة هناك إضافة لسلاحي الإرادة والمطاولة والإيمان بعدالة القضية والنصر الأكيد ، معيارا إضافيا للتمييز و للمقارنة في أداء القيادات لإنجاز خططها أو إستراتيجياتها الفرعية يتمثل في معيار الإنتاجية القائم على أساس عناصر الوقت والكلفة ونوعية الأداء.

تتفاوت عيوب القيادات ما بين الاستبداد في الرأي ،السعي لإرضاء الجميع ،الخوف والأحجام في المواقف الصعبة ، التقليل من شأن العدو ، الغرور وحب المال والشهرة ، الابتعاد عن روح الجماعة في العمل ، التحيز وتقريب حاشية من الانتهازيين وغير الكفوئين ، منح الامتيازات والمكافئات لمن لا يستحقها, القيادة الرخوة والمتقلبة والمترددة.

المقاومة العراقية وأزمة القيادة

يمكن تشبيه حال أطراف الحركة الوطنية العراقية وهي تقف على أعتاب المرحلة الثالثة من الصراع - مرحلة الانجاز النهائي - بالفرقة الموسيقية التي تمتلك مقومات نجاح كاملة لأداء سيمفونية وطنية رائعة ، ولكنها تفتقر فيما بينها إلى التناغم والانسجام ، لذا تجد نفسها عاجزة عن إسماعها للآخرين بصورة واضحة ، لأن كل عضو فيها ينشد لوحده وفي التوقيت الذي يخدمه, وبطبقة الصوت التي يعتقد أنها صحيحة دون سواها .

يكمن السبب في اعتقادنا إلى وجود عوامل قصور ذاتية على مستوى التخطيط الاستراتيجي ، سواء أكان هيكليا كمؤسسات أو فكريا على مستوى القناعة أصلا بجدوى مثل هذا التخطيط ، كما إن هناك خللا وفجوة كبيرة على مستوى النخب التي تتحمل مسؤولية إحداث الانتقالات الكبرى والنوعية في منحنى الصراع, ويختلط كثيرا على البعض مفهوم النخبة فالمقصود بها هنا قطعا ليس " أصحاب الياقات البيضاء " بل يقصد بها منظومة متكاملة ومتدرجة لانجاز فعل التخطيط الشامل والسيطرة والتنظيم والتوجيه ، وتنقسم هذه المنظومة عادة إلى ثلاث مستويات حسب التدرج والاختصاص ، يمثل المستوى:

الأول (الرموز) والمستوى الثاني ( القادة) والمستوى الثالث هو ( التنفيذيين ).

وفي الوقت الذي تكون فيه الرموز نتاج للحظات تاريخية تعطي هذه الشخصية أو تلك في منعطفات حساسة من تاريخ الشعوب * ، أرجحية رمزية سواء أكانت وطنية أو دينية تستقر عاطفيا في الوجدان ، فأن الصنف الثاني من القادة هو الذي يعول عليه في إحداث التغييرات والانتقالات النوعية في الصراعات ، فهم المستوى القادر كل حسب اختصاصه على ترجمة الأفكار والخطط إلى فعل عملياتي على الأرض ، وهذا الصنف إنما يمتلك هذه القدرة بسبب النظرة الواقعية والموضوعية القائمة على أساس تكامل الاختصاصات في دراسة وتحليل متغيرات الصراع والتفاعل معها بشكل مرن ومفتوح ، بما يتيح بناء الخطط الإستراتيجية وتنفيذها وفق أسس صحيحة ومدروسة ، تبدأ بتحديد الهدف السياسي إلى رسم السياسات الثابتة والمتغيرة ، ولديهم القدرة والمرونة دائما على التقاط اللحظة المناسبة والفرصة السانحة وتحويلها إلى فعل وإنجاز ملموس .

يبقى الصنف الثالث وهم التنفيذيون والإداريون الملتصقون في الأرض, واختصاص هذا الصنف يتلخص في تلقي التوجيهات وتنفيذها بوعي وإدراك .

وفي تجربة المقاومة العراقية تختلط حاليا هذه المستويات في منظومة السيطرة والتوجيه مع بعضها البعض ، الأمر الذي يؤدي في كثير من الأحيان إلى التخبط والفوضى وضياع الفرصة في إمكانية تقصير عمر الاحتلال ، إن استقلال العراق وتحريره وإدارة صفحات صراع مرير طويل الأمد, من الأهمية والخطورة والتعقيد بحيث لا يجب أن يترك بيد السياسيين لوحدهم أو العسكريين أو ينفرد به رجال الدين بل بتكاملهم كل حسب اختصاصه واحترام واعتراف الجميع بالجميع .

ولعل غياب طبقة القادة يفسر تلك الفجوة الحاصلة بين ضخامة الانجاز العسكري للمقاومة العراقية وضآلة توظيفه سياسيا أو ما يطلق عليه في القاموس والفقه العسكري " باستثمار الفوز " ، فقد أدى عدم الوعي بقيمة الفعل العسكري في حدود تأثيره السياسي عامي 2006 – 2007 ، عندما كان الفعل العسكري المقاوم في أشده وفي أعلى مستوياته ، إلى ضياع فرصة من النوع الاستراتيجي, عندما كان العدو يترنح و على وشك أن يفقد صوابه وفي أسوأ حالاته مستعد للمساومة على الأقل جزئيا ، نتيجة للضغط العسكري الهائل الذي مارسته فصائل المقاومة حينذاك.

ولعل عدم الإلمام بعناصر الصراع الإستراتيجية الأخرى والتنبؤ بمساراته كانت أحد أهم الأسباب غير المباشرة التي وقفت خلف ظاهرة الصحوات عام 2007 ، وهي ظاهرة اجتماعية – اقتصادية, تم توظيفها بنجاح من قبل العدو لأغراض سياسية وعسكرية ، وعلى الرغم من إن عدة عوامل تقف وراء بروزها ، لعل في مقدمة هذه العوامل اختراق وانحراف تنظيم القاعدة ، إلا إن تركيز فصائل المقاومة طيلة المرحلة الأولى من الصراع 2003 – 2006 على العنصر العسكري دون سواه رغم أرجحيته ، وإغفال وإهمال الأبعاد الأخرى الاجتماعية والاقتصادية والنفسية والسياسية ، أتاح للاحتلال بعد عجزه عسكريا الالتفاف من خلالها لينجح في عزل هذه الفصائل عن حاضنتها الاجتماعية ، والتي بدونها كما تشير تجارب الشعوب لا يمكن الحديث عن مقاومة قوية ومستمرة ، فالعلاقة بين المقاومة والحاضنة كالسمك والماء ، حيث تمكن الاحتلال بالتعاون مع بعض الانتهازيين من وجهاء العشائر من تحييد وعزل أكثر من 100 ألف مقاتل ممن كانوا سيؤلفون الاحتياط المضموم للفصائل المنظمة, ولينخرطوا مقابل مبالغ هزيلة في الصحوات وليشكلوا ساترا بشريا لحماية القوات الأمريكية من خلال تقليص مساحة الاحتكاك والتماس معه ، بل والتجسس لصالحه وملاحقة وتصفية واعتقال عناصر وقيادات المقاومة .

لقد أدى انعدام الحد الأدنى من التنسيق في منظومات السيطرة والقيادة والتوجيه بين ركائز الحركة الوطنية العراقية بشقيها السياسي والعسكري ، إلى استمرار حالة التشرذم والاكتفاء بالمشاريع المجتزأة ورواج المشاريع الوهمية ذات الحمل الكاذب من خلال مئات الدكاكين والاكشاك السياسية والعسكرية ، والأهم من ذلك نجاح الاحتلال في تأخير ولادة المرحلة الثالثة المتمثلة في المشروع الشامل والمتكامل والذي تشير معظم تجارب الشعوب التحررية إلى انه شرط لا غنى عنه للانجاز النهائي في تطور هذه التجارب ، وضرورة حتمية لتحقيق الانتصار .

ومن الواضح أن استمرار حالة التشرذم سيلقي بظلال قاتمة من الشك على حقيقة نوايا هذا الطرف أو ذاك والذرائع التي يسوقها لتبرير استمرار هذه الحالة ، ومدى ارتباط هذه النوايا بالعجز أو الطمع بالسلطة أو الارتهان لمشاريع خارجية وفي أحسن الأحوال عدم القدرة على الوعي بخطورة اللحظة التاريخية وربما يقف خلف ذلك الهواجس والخوف من نوايا الآخرين .


* دكتوراه فلسفة في العلوم السياسية – قسم الدراسات الدولية / جامعة بغداد .
* مدير مركز دراسات الاستقلال .
الموقع الالكتروني: www.istqlal-cnt.com
البريد الالكتروني: hamzah600@gmail.com

يقين نت