عندما وقع الكاكا مسعود بارزاني، بوصفه رئيس كردستان، المرسوم رقم 60، الذي قضى برفع "علم كردستان" على جميع الادارات الحكومية، التي كانت ترفع علم العراق، وضع مدماكاً آخر لبناء "دويلة" مستقلة بذاتها بعيدة عن بغداد.
واذا كان "علم كردستان" الذي يتكوّن من الألوان: الأحمر، والأبيض، والأخضر، وقرص الشمس في الوسط... ينتشر في الاقليم الكردي، حيث يندر ظهور علم العراق المرتبط في اذهان الكثير من الأكراد بحكم الرئيس صدام حسين وبـ"القومية العربية"، فان صدور المرسوم رقم 60 له دلالات تنبئ عن توجه الأكراد القاطع لتثبيت الأمر الواقع، الذي كان فرض على العراق سنة 1991، ففي تلك السنة، بعد الانتفاضة الفاشلة ضد الرئيس صدام حسين، فرضت واشنطن ولندن حظراً على تحليق الطائرات في المنطقة الشمالية، وحصّنت الاقليم وحمته، فخرج عن دائرة سيطرة النظام. وعندما اطاحت الغزوة الانغلو ـ اميركانية سنة 2003 الرئيس صدام حسين ونظامه، تعمّق الحكم الذاتي في المحافظات الشمالية الثلاث، حيث يوجد برلمان، وحكومة خاصة تتدبر امرها بعيداً عن بغداد، وقوات أمن تحمي الاقليم مشكلة من مقاتلي "البيشمركة".
و في خطوة اولى نحو ترسيخ "الدويلة" بداية لتقسيم العراق، اتخذ في البرلمان قرار توحيد الاقليم الذي كان ينقسم تحت ادارتين: واحدة تحت ادارة "الحزب الديموقراطي الكردستاني" برئاسة مسعود بارزاني، وأخرى تابعة لـ"الاتحاد الوطني الكردستاني" بزعامة جلال طالباني.
وما بدأ الأكراد في تنفيذه في الشمال، ولقي صدى في الجنوب اللاهث هو الآخر خلف الفيدرالية، راسخ في الخطط الاسرائيلية التي تعد للمنطقة. ففي سنة 1980 كتب عوديد ينون، وكان مستشاراً لمناحيم بيغن، مقالاً مطولاً عنوانه: "استراتيجية "اسرائيل" في الثمانينات" دعا فيه الى تقسيم العالم العربي من موريتانية حتى عُمان في اقصى الخليج الشرقي، على أسس عرقية وطائفية. وقد اعتبر ينون العراق "العدو الأكبر" للدولة العبرية، لذا يجب تقسيمه الى ثلاث دويلات: كردية في الشمال (كما هو حاصل اليوم)، وثانية شيعية في الجنوب (كما بدأ عبد العزيز الحكيم مدعوماً من ايران يخطط)، وثالثة سنية في الوسط.
وفي ذلك المقال حث عوديد ينون حكومة مناحيم بيغن على دعم ايران الخميني من أجل الاسراع في تقسيم العراق والقضاء على الخطر الذي سيتهدد "اسرائيل". كما يؤكد على ضرورة تطبيق نظرية "شد الاطراف" التي تعني ان على "اسرائيل" تعميق صلاتها مع الدول غير العربية المحيطة بالعالم العربي، ودفعها الى استنزاف العرب، واشغالهم، وخدمة المخطط الاسرائيلي، ويعدّد ينون: ايران، تركية، اوغندة، اثيوبية.
في سنة 2003 اعاد "مجلس العلاقات الخارجية" Council of Foreign Affairs، وهو احد مراكز التخطيط الاستراتيجي في الولايات المتحدة.
الذي يضم "الاستخبارات المركزية الاميركانية" CIA وكبار اصحاب الشركات العملاقة، احياء ما كان طرحه عوديد ينون، فكتب لسلي غيلب، رئيس المجلس، مقالاً نشرته جريدة "نيويورك تايمز" في 25/11/2003 يدعو الى "استبدال العراق الحالي بثلاث دول صغيرة كردية في الشمال وسنية في الوسط وشيعية في الجنوب"، ثم "تسحب الولايات المتحدة قواتها من الوسط وتركه يعاني من الفقر لأن الموارد ستذهب للفيدراليتين الكردية والشيعية".
وخطة غيلب الأميركاني الشبيهة بما كان طرحه ينون اليهودي، تسمى بالسيطرة على نفط العراق واستغلال موقعه الاستراتيجي وتحكم الولايات المتحدة قبضتها على اقليم النفط، واقامة الشرق الأدنى الجديد، والانطلاق منه للهيمنة على أوروبة، والصين، وروسية، والهند...
واستعجال السيستاني في الموافقة على "الفيدرالية" كقاعدة للدستور العراقي الجديد، بعد رفض تكتيكي، وموافقة هادي العامري، رئيس "فيلق بدر" وطلبه الاسراع في تطبيق الفيدرالية وقيام دولة الجنوب ثم زيارة عبد العزيز الحكيم لاربيل للوقوف على "انجازات" الاكراد في اقليمهم والايعاز باعداد العدة لتشكيل اقليم الجنوب ,كشف بوضوح الدور الايراني المتناغم مع المخططات الاسرائيلية ـ الاميركانية التي تعد للعراق.
فايران، تريد ان يبقى العراق مستنزفاً، فيخرج من ساح التنافس والصراع الاقليمي. ويحقق ذلك لطهران اثنين من اهم الأهداف التي اراد رهبار الثورة الامام الخميني، وقبله الشاهنشاه محمد رضا بهلوي، تحقيقهما، وهما الاستيلاء على نفط العراق، لتعويض تزايد نضوب النفط في الآبار الايرانية، والاستيلاء على المياه العراقية. لتحل مشكلة شحة المياه وقلة الأراضي الصالحة للزراعة التي لا تتعدى 15٪ من كل مساحة ايران.
ان خطة يهود الشرق التي تبناها الأكراد وبدأوا تنفيذها في الشمال، اقترنت بالتطهيرات العرقية والطائفية التي شاهدتها كركوك خصوصاً، وهذا التكتيك يشبه ما اتبعه الرئيس بيل كلينتون في تقسيم يوغوسلافية، على الرغم من تأكيد اوروبة والولايات المتحدة في بداية التدخل الغربي فيها، من ان لا نية في تقسيم تركة جوزف بروس تيتو. لكن واشنطن وحلفاءها، نفذوا خطة أدت الى التقسيم. ولذلك فان وظيفة التطهير العرقي والطائفي الأساسية في العراق التي بدأ تنفيذها بارزاني وطالباني في الشمال والحكيم والسيستاني في الجنوب، هي اشعال وتأجيج حروب دموية طويلة ومدمرة، تحول الحساسيات والمخاوف الطائفية والعرقية الحالية، التي زرعها الاحتلال الانغلو ـ اميركاني الى عداوات مستحكمة لا يمكن التغلب عليها، وتجعل الخيار الوحيد المتبقي للفيدراليات الثلاث هو "الاحتراب" او عقد "هدنات" مؤقتة، تؤدي الى "الانفصال" تماماً كما حصل في يوغوسلافية.
وهذا ما أكده جوزف بايدن، السيناتور الديمو قراطي المسؤول عن لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ وأحد المرشحين الديموقراطيين المؤملين للانتخابات الر ئاسية سنة 2008، عندما جدد دعوته الى تقسيم العراق وتطبيق مبدأ اللامركزية ومنح الشيعة والسنة والأكراد اقاليمهم الخاصة بهم على غرار التقسيم الذي طبق في البوسنة بمقتضى "اتفاق دايتون للسلام"، اما الحكومة المركزية، فستتولى، حسب خطة جوزف بايدن، الاشراف على المصالح المشتركة للعراقيين مثل امن الحدود وتوزيع العوائد النفطية والعلاقات الخارجية.
ان تقسيم العراق بدأ من الشمال... والبيشمركة اصبحوا حراس الانفصال والخوف ان تبدأ حجارة "الدومينو" في التساقط ودولة بعد دولة في المنطقة تنخر بسكين التقسيم.*