مكية بإجماع وهي ثماني عشرة آية
فيه ثلاث مسائل :
الأولى : قوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله " قال العلماء : كان في العرب جفاء وسوء أدب في خطاب النبي صلى الله عليه وسلم وتلقيب الناس ، فالسورة في الأمر بمكارم الأخلاق ورعاية الآداب ، وقرأ الضحاك و يعقوب الحضرمي : ( لا تقدموا ) بتفح التاء والدال من التقدم ، الباقون ( تقدموا ) بضم التاء وكسر الدال من التقويم ، ومعناهما ظاهر ، أي لا تقدموا قولاً ولا فعلاً بين يدي الله وقول رسوله وفعله فيما سبيله أن تأخذوه عنه من أمر الدين والدنيا ، ومن قدم قوله أو فعله على الرسول صلى الله عليه وسلم فقد قدمه على الله تعالى ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يأمر عن أمر الله عز وجل .
الثانية : واختلف في سبب نزولها على أقوال ستة :
الأولى : ما ذكره الواحدي من حديث ابن جريج قال : حدثني ابن أبي مليكة أن عبد الله بن الزبير أخبره : أنه قدم ركب من بني تميم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال أبو بكر : أمر القعقاع بن معبد ، وقال عمر : أمر الأقرع بن حابس ، فقال أبو بكر : ما أردت إلا خلافي ، وقال عمر : ما أردت خلافك فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما ، فنزل في ذلك : " يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله " إلى قوله " ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم " رواه البخاري عن الحسن بن محمد بن الصباح ، ذكره المهدوي أيضاً .
الثاني : ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يستخلف على المدينة رجلاً إذ مضى إلى خيبر ، فأشار عليه عمر برجل آخر فنزل : " يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله " ذكره المهدوي أيضاً .
الثالث : ما ذكره الماوردي عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم أنفذ أربعة وعشرين رجلاً من أصحابه إلى بني عامر فقتلوهم إلا ثلاثة تأخروا فسلموا وأنكفأوا إلى المدينة ، فلقوا رجلين من بني سليم فسألوهما عن نسبهما فقالا : من بني عامر ، لأنهم من بني أعز من بني سليم فقتلوهما ، فجاء نفر من بني سليم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : إن بيننا عهداً ، وقد قتل منا رجلان ، فوداهما النبي صلى الله عليه وسلم بمائة بعير ، ونزلت عليه هذه الآية في قتلهم الرجلين ، وقال قتادة : إن ناساً كانوا يقولون لو أنزل في كذا ، لو أنزل في كذا ؟ فنزلت هذه الآية ، ابن عباس : نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه ، مجاهد : لا تفتاتوا على الله ورسوله حتى يقضي الله على لسان روسله ، ذكره البخاري أيضاً ، الحسن : نزلت في قوم ذبحوا قبل أن يصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمرهم أن يعيدوا الذبح ، ابن جريج : لا تقدموا أعمال الطاعات قبل وقتها الذي أمر الله تعالى به ورسوله صلى الله عليه وسلم .
قلت : هذه الأقوال الخمسة المتأخرة ذكرها القاضي أبو بكر بن العربي ، وسردها قبله الماوردي ، قال القاضي : وهي كلها صحيحة تدخل تحت العموم ، فالله أعلم ما كان السبب المثير للآية منها ، ولعلها نزلت دون سبب ، والله أعلم قال القاضي : إذا قلنا إنها نزلت في تقدم الطاعات على أوقاتها فهو صحيح ، لأن كل عبادة مؤقتة بميقات لا يجوز تقديمها عليه كالصلاة والصوم والحج ، وذلك بي، ، إلا أن العلماء اختلفوا في الزكاة ، لما كانت عبادة مالية وكانت مطلوبة لمعنى مفهوم ، وهو سد خلة الفقير ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم استعجل من العباس صدقة عامين ، ولما جاء من جمع صدقة الفطر قبل يوم الفطر حتى تعطى لمستحقيها يوم الوجوب وهو يوم الفطر ، فاقتضى ذلك كله جواز تقديمها العام والاثنين ، فإن جاء رأس العام والنصاب بحاله وقعت موقعها ، وإن جاء رأس العام وقد تغير النصاب تبي، أنها صدقة تطوع ، وقال أشهب : لا يجوز تقديمها على الحول لحظة كالصلاة ، وكأنه طرد الأصل في العبادات فرأى أنها إحدى دعائم الإسلام فوفاها حقها في النظام وحسن الترتيب ، ورأى سائر علمائنا أن التقديم اليسير فيها جائز لأنه معفو عنه في الشرع بخلاف الكثير ، وما قاله أشهب أصح ، فإن مفارقة اليسير الكثير في أصول الشريعة صحيح ، ولكنه لمعان تختص باليسير دون الكثير ، فأما في مسألتنا فاليوم فيه كالشهر ، والشهر كالسنة ، فإما تقديم كلي كما قاله أبو حنيفة و الشافعي وإما حفظ العبادة على ميقاتها كما قال أشهب .
الثانية : قوله تعالى : " لا تقدموا بين يدي الله " أصل في ترك التعرض لأقوال النبي صلى الله عليه وسلم ، وإيجاب اتباعه والاقتداء به ، وكذلك " قال النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه : مروا أبا بكر فليصل بالناس ، فقالت عائشة لحفصة رضي الله عنهما : قولي له إن أبا بكر رجل أسيف وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس من البكاء ، فمر عمر فليصل بالناس ، فقال صلى الله عليه وسلم : إنكن لأنتن صواحب يوسف ، مروا أبا بكر فليصل بالناس " ،
فقال صلى الله عليه وسلم : إنكن لأنتن صواحب يوسف ، مروا أبا بكر فليصل بالناس " ، فمعنى قوله " صواحب يوسف " : الفتنة بالرد عن الجائز إلى غير الجائز ، وربما احتج بغات القياس بهذه الآية ، وهو باطل منهم ، فإن ما قامت دلالته فليس في فعله تقديم بين يديه ، وقد قامت دلالة الكتاب والسنة على وجوب القول بالقياس في فروع الشرع ، فليس إذاً تقدم بين يديه ، " واتقوا الله " يعني في التقدم المنهي عنه " إن الله سميع " لقولكم " عليم " بفعلكم . dأيها