[COLOR="Teal"]كما الحنان واللطف
عشت أيامي الأخيرة بالغربة برفقة
رواية سلطانات الرمل للروائية السورية والبدوية لينا هويان الحسن
هنا كذا صفحة من صفحات الرواية الأخيرة
ما تمنيت تنتهي رواية سلطانات الرمل
عشت مع 322 صفحة مكتوبة بقلم عبقري
رائعة يالينا هويان الحسن[/COLOR]
السراب لا ينظر أبداً حيث يضع خطاه ، والبادية ليست سحرية، لكن ثمة اعتباطية سحرية في تشكيل غموضها. يكتب «طراد» ويملأ أوراقه وسط صمت يقطعه صوت الصقّار وهو يدرب الصقر، خلال النافذة تتعلق عيناه بجناح «حبارى» مربوط بحبل يلوّح به الصقار في مرحلة أولى لتدريب الحر قبل أن تأتي المرحلة الثانية في التدريب حين يطلق الطائر في إثر الحمام دون وثاق، وهذه مرحلة «الدعو» وبعدها تأتي مرحلة «الكسير» حين يصطاد الحبارى والأرانب ويحترف الطراد.
حوله جمال هادئ، واضح وغامر، في الظهيرة يبدو نعساناً وخاملاً يرافقه حضور لأشخاص عتيقين تجذروا في الذاكرة.. في الإحساس، «أيها الهارب في البراري مع الوقت أخشى أن تكتسي بالوبر أو الفرو وتتحول إلى كائن بري». هكذا كانت تقول له «سكرى» عبر الهاتف وهي تسأله عن احتياجاته التي يمكن أن تحملها معها من الشام عند زيارته.
فجأة افتقد لعواء الذئاب. الذئاب لم تعد تعوي لأنها تقريباً لم تعد موجودة في تلك البقاع كما أخبره «راكان». مامن ذئب يؤنس سكون الليالي هناك. لا ذئب يمشي مشيه العسلان ليحمل قائمة أسمائه الكثيرة، سرحان وأوس وذؤالة، مفردات يغلفها الغبار.. أحياناً كان يسخر من نفسه بمرح ويفكر أنه مثل كولمبس حين اعتقد أن كوبا هي الهند.
ينظر صوب ذلك الأفق اللامتناهي ذلك الأفق الذي لم يلمسه أحد، وثعلب السراب يناثر الساعات التي لا يشعر بمرورها «طراد» في تلك المزرعة، يرافق الزوار الفضوليين ويشرح لهم:
ـ «الشواهين أسرع الجوارح وأشجعها تراه واسع العين، حادها، سائل المدمعين، حاد المنسر، طويل العنق، رحب الصدر، ممتلئ الزور، عريض الوسط، قصير الساقين عظيم الفخذين، سبط الكف، تام الخوافي، دقيق الذنب، منها الحمر والشهب، والشعلاء أفضلها، وأول من هجن الشواهين كان قسنطين ملك عمورية».
ويسأله سائح:
ـ «والصقور»؟!..
يتابع «طراد»:
«الصقور، من أبرع الجوارح تسمى بغال الطير لأنها الأصبر على مطاردة الفريسة البرية منها تقدر على صيد الظباء، لكن المدجنة والتي ولدت في المزرعة لا تصيد غير الطيور والأرانب وشرح بصعوبة معنى أسمائها العربية: ألفت، أحوى، أخرج وأبيض.. يختم كلامه عنها بقوله وأول من درب الصقر وصاد به هو الحارث بن معاوية بن ثور بن كندة».
ويسأله واحد آخر:
ـ «وماذا تطعمونها؟!..
يشرح «طراد»:
ـ «لا يطعم الجارح شحماً ولا عصباً أو لحم الساق، ولا يلائمه لحم الدجاج والبقر، يطعم لحم العصافير والقنابر وفراخ الحمام وفراخ الخطاطيف».
يقطع «راكان» عليه خلواته ويسحبه لتناول وجبة ما، أعدتها «ميّر» زوجة «راكان» الذي عثر يوماً على حب حياته في قاع صهريج روماني، ووسط أبناء «راكان» الخمسة يفطن «طراد» إلى أنه نسي أمر الذرية. يسرقه العمر وهو ينتظر ابناً يتمناه من رحم «سكرى».. حين علم أن زوجها دخل في غيبوبة بسبب السكّر، قضى وقته غارقاً في عباب أمنيته الوحيدة تقريباً، أن يموت هذا الرجل.
يستأنف روايته التي كان يكتبها، لأول مرة يقترب من نفسه إلى ذاك الحدِّ. استحضرهن جميعاً واكتشف أن النساء ينسجن التاريخ أكثر مما يفعل الرجال أو كما تتوهم غالبيتهم.
ثمة إناث خلقن لتخليَ لهن النجوم مكاناً، كانت تلك قناعته التي دفعته لكتابة روايته الأخيرة أكثر بكثير مما كان يدفعه الماضي: الفقدان مثل الزمن لا يتوقف.
عجاجٌ و دوَّامات من رمل عتيق وأطياف أثيرية تنهض على إيقاع حوافر الكلمات التي تركض على أوراق «طراد»، تنزلق «حمرا الموت» مع أذيالها الكثيرة إلى جواره، أذيال تسحبها وراءها منذ ذلك اليوم الذي كان فيه أجدادها كهنة «الإله يغوث» في جُرش على حدود اليمن الشمالية، من هناك من أرض مذحج حيث كانت قبيلة طي، تأتي «حمرا» و تهمس له بتلك الكلمات التي أرسلتها يوماً لforaten.net/?foraten.net/?foraten.net/?foraten.net/? بيك الأبوريشه، وجننته عن بعد وفتنته، العرب يعرفون عمق الجَمال، لهذا سمُّوه فتنة كإشارة ذكية للحروب التي تنشب بسبب إمرأة. وسمُّوه روعة مستلهمين كلمة، رَوَعَ، إنه الخوف الذي يحبه الرجال ويهابونه، كل ذلك كانته «حمرا الموت».. وكل ذلك مجبولاً بالكبرياء رافق «قطنة» وهي على ظهر فرسها البيضاء، شعرها مجدول بليرات الذهب وترتدي الحرير الأحمر وتشرئب وسط قومها المتخاذلين عن أخذ الثأر لشقيقها، وتزاحم «حمرا الموت» وتهمس لـ«طراد» :
ـ «بعض النهايات يجب الذهاب إليها دون كبرياء»..
تقول ذلك وتودعه غاضبة من «طراد بن زبن» تغادر حين تفعلها الآفاق وتسحب من تحت أقدامنا السراب وتتركنا لوحدنا مع الحقيقة، ومع «قطنة» أدركت مخيلة الرمال أنه يمكن للإختفاء أن يكون أنيقاً وأنثوياً محضاً، تماماً مثلما فعلت «قطنة» وهي تأخذ مكاناً لها في قلب التيه، وتلسع تاريخ الصحراء ببياضها القطني، وتكون الأنثى التي هزمت يوماً قبيلة الرولة.
مهلاً أيها السراب؛
لا تتسلَّل..
حتى في سالف العصر والآوان، كلما التقى العسكران وتقاتل الجمعان كانت الخيول حاضرة، مغيرة:
«القميرة» فرس جساس تؤسس لذاكرة لا تنام.
«الخضرا» فرس ذياب بن غانم تحمله إلى غزواته وتعرف أن المعركة منطقية مثل الشر.
«الأبجر» حصان عنتر يتوحد معه في وجه صراحة عبلة المطلقة: لا أريدك..
«الأخرج» حصان المهلهل يأوي معه إلى فراش النعاس ولا ينام المهلهل ـ لاتصالح ـ فيتبأ بالماضي ويتذكر المستقبل. فيما الندم محمولاً فينا وصولاً إلى نخلة النهاية الكبيرة.
ومن عمق واحة مجهولة تخطر جدته مزدانة بأسمائها الثلاثة «عنقا ـ ليز ـ شمس» فيما السراب ينزِّه ثعلبه وينجب أذياله السبع المدوخة. تشاكسه مرة أخرى وتسخر من نحوله وتدفعه للأكل أكثر ليسمن قليلاً بقولها:
ـ «صيد البازي على قدِّ خرئه».
و«مراية» تختلس مسدس زوجها لتردي قاتل أخيها.. إناث يمطرنه برذاذهن الدموي، وتغني القبرات من دون صوت. جنيات إلهام من لحم ودم ورمل متحلقات معه حول موقد اللحظة، حميميات، ذكيات، ملهمات..
خالته «سكرى» تمازحه بأشعار سيرة بني هلال التي تحفظها وتقول له ما قاله الزيناتي خليفة لابنته سعدا :
«أيا سعدا قلبي من العبد خايف، أرى كفوفه لطعن الرمح كبار».
وتجاوبها «منوى» مختلسة أشعار سعدا عقب طعنة من سيف ذياب بن غانم. وتقول كلماتها الأخيرة قبل أن يدخل القدر بهيئة موت ويفوز بالقضمة الأخيرة :
ـ «وما نلت من مرعي مناي وبغيتي.. نسيني ولم يرعي لي زمام.. زرعت جميلاً قابلوني بضده.. وكيف الذي زرع الجميل ينضام».
وسط كل ذلك الحُسن.. كان «طراد» مجرد «عرّاب» التذكر.. "العرَّاب" الذي يحترف مناورة الورق المتكبر، ها أنا آتيك بما خَلَتْ منه كل أرشيفاتك الأدبية والشعرية والنثرية، أرشقك بنثار ذلك الزمن، تعرف أيها الورق حين نصعد جبالك باهرين، هائلين، ونتركك مطأطئاً مذعناً لمدونةٍ قدرنا أن نكتبها. لا فرسان عندي ولا مشاة ولا مدفعيين إنما عندي أبطال يطلعون من حشا السراب.
الأطياف لا يمكنها أن تكون حيادية أو هادئة لأنها تحضر في عزِّ اللحظة، يتواصل المد والجزر في الذكريات ويكتب «طراد»، يتكئ على جذع اسطورته الحميمة ويسقيها حروفاً وكلماتٍ ونقاطاً وفواصل.
في الخارج، السراب نخيلٌ صنعه لعاب الضوء الوحشي حيث الأفق لا يقبل للشمس أن تكون أقل اشتعالاً، ولا أقل غروراً، كيف لا!.. والأفق ذاته عبره إصرار الزير سالم على صهوة الرفض ورمحه يعفِّرُ كل الدروب بالدماء فقط ليظل وسيماً بلا شبهة، لتكون جميلاً يهمس لك السراب بسره: تعلّم من الخيول خيلاءها، كن حصاناً، كن صعباً ووعراً وعالياً وعاصفاً وناتئاً وصاخباً وهادراً وملعلعاً، كن خرافة!.. فكم مرة سنوقظه هذا التاريخ ليحتفي بحسننا وألقنا نحن الجارفون الموجِعون والمؤلِمون، ندلِّلها ونعزها أنوفنا وكما السراب نمشي ونترك كلمات كثيرة دون نُطق.
* * *
لن يطرق باب الهواء.. أو يتناول حنينه الغافي المعلق على عمود يرفع ثقل توقه إلى مدى ينهض ماوراء الرمال.
حين يقصد خيمة «راكان» المرفوعة قرب شرفة منزله المحاط بدربزونات من رخام، يستسلم لرائحة الهال ويجلس «مبعثراً» على قارعة المسافة بين بداوته السالفة ومدنيته اللاحقة.. الجهات الأربع لا تكفيه، يبحث عن جهة خامسة وهو يرتب أفكاره بفنجان قهوة يناوله له «راكان».
يتنشق روائح كثيرة مموهة برائحة طاغية متخمة بالهال فيما المدى غامض، إلى جواره تجلس وشايات كثيرة، وشايات جلبها الحنين الموحش فيما يتعثر في التفافات دوروب الذاكرة، ضيقة دروبها مثل أوردة القلب.
يستأنف تدخين سيجارة جديدة و«راكان» ينبهه:
ـ «الطبيب منعك من التدخين على الأقل لمدة عام عقب الرصاصة التي مرقت من كتفك»..
يذعن «طراد» ويطفئها بالتراب ويرميها عن بعد لـ«راكان»، يسند ظهره إلى واحد من الأعمدة الخشبية التي اعتاد البدو رفع بيوتهم بها لقرون خَلَتْ، ويتساءل «طراد» إن كانت تلك الأعمدة هي ذاتها التي استلهم منها «ت.أ. لورنس» عنوان مؤلفه الشهير «أعمدة الحكمة السبعة»، هل كان يكتب عن الأعمدة السبعة وفي ذاكرته منزل شيوخ «العنزة» المنصوب على أعمدة سبع، أطنابها تبلغ قلب نجد..
لماذا «أندريه مالرو» وزير ثقافة حكومة «شارل ديغول» أكد ذات مرة: أن شمس العرب أفسدت «ت.أ. لورنس» إلى الأبد؟!..
هل كان يقصد أنها شوشت ذاكرته نهائياً، ذوبتها وصهرتها وخلطت الأوراق؟!..
لازال «طراد» على يقين أن ثمة دفاتر مهملة في تاريخ البوادي، أوراق موزعة على آثار ترحالهم بين بئر وبئر. بين واحة وواحة، بين تيه وتيه.. وبلحظة ما ينفتح الأفق كاملاً فتتقاطر أطيافهم، أولئك الذين مروا من هناك وهنا، وبين بين.
مروا دون أن يعلموا أن ثمة زمن سوف يأتي ويكسر بخاطر سراباتهم التي دحرجوها أمامهم مثل وثن.
لازال «طراد» يصر على قراءة تفاصيل الرمل، وخطوط تجاعيده، ضوضاؤه، تغيّراته في لحظة ما.
رغاء ناقة يكفي لتغيير ملامحه، وكل تلك الخيول التي عدَت يوماً وراء ثأر تذوب في الغيب مثل دمعة مكابرة، متعجرفة، تدرك قصر المسافة بين العين والوجنة، تندفع حارّة مصرة وتركض بين أضلاع الكثبان.
ما بين حدين: الماضي والقادم يلملم فوضى حنينه ولا يهرب هذه المرة، يألف ظله الجديد، ينهض، مغادراً ـ مؤقتاً ـ من ماتوا وناموا في دثار قلبه ويلبي عصافير الوقت التي تتقافز نحوه كأنه غصن يفيق لتوه من شتاء طويل.
يشم الغياب، يتوسد ماضيين: واحدٌ بعيد جداً يمنحه معنى الأمس، وآخر قريب جداً مفعم بصوت فيروز» الذي يملأ صباحات مقاهي دمشق، كأن «طراداً» يقف بين بحرين ويحتار من أين يصطاد السمكة؟!..
من يجرّ السراب من ذيله؟!.. إلى أين تمضي؟!.. تحمل «أناي» و«أناهم» إلى زمن مراياه تحيلنا رملاً كان.. للكثبان مخالب من ريح لها خفة الجن، ليّنة، ناعمة، متحركة، حين تصمت فإنها قد تعبئ الوقت ضدك.
* * *
وصيت على روايتها بنات نعش
سمعت أنها رواية تحكي عن البادية العراقية
هل هناك أحد منكم قرأ هذه الرواية
لا أشك بروعتها
من يكتب سلطانات الرمل
نادر