المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مدينة الثورة



عراقي هواي وميزة فينا الهوى
29-11-2006, 08:31 AM
مدينة «الثورة».. تماهي البؤس بالموت!


تواجه مدينة الثورة، إحدى أكثر مدن بغداد ازدحاماً، كثافة من الموت المتماهي ببؤسها القديم، والمعادل لكثافتها السكانية، بما يوصف بالمسالخ الجماعية. ذلك إذا علمنا أن غالبية غرقى وقتلى جسر الأئمة، في موسم زيارة الضريح الكاظمي (2005)، كانوا من أهلها. وبدلاً من تحقيق أحلامها البسيطة في تبليط شارع أو مد أنبوب مياه، أو خلاص من عصابة مسلحة، يأتيها نداء الإبادة: «الموت آتٍ والنفوس نفائسٌ».


في مطلع الستينيات بدأت مدينة «الثورة» ضاحية في ما كان يُعرف بخلف السدة شرقي بغداد. كان سُكانها الأوائل من منطقة الشاكرية، بكرادة مريم غربي بغداد، حيث نشأ، في ما بعد، مجمع القصور الرئاسية، المنطقة الخضراء لاحقاً! والشاكرية، وبيوتها من الطين والقصب، اسم تردد في أمهات التاريخ، ضمن حياة بغداد العباسية، وفتنها الاجتماعية، تفيد معنى الجُند، والمستخدمين الأجراء (الجاحظ، كتاب الحيوان). وبهذا حافظت الشاكرية على المهنة ذاتها، فمنها الأجير ومنها الجندي، كبقية من العصر العباسي، لا صلة لتسميتها، كما يرى البعض، بوزير الدفاع وعضو مجلس الأعيان شاكر الوادي (ت 1957). أشرتُ إلى هذا، صوناً لحقوق التاريخ، وما مر من حوادث الأزمان، فلربما يظهر علينا مَنْ يحاول استبدال اسم بغداد غصباً، مثلما استبدل اسم «الثورة» بـ«صدام» ثم «الصدر»!

تضخم هؤلاء الشاكرية، في مدينة الثورة، حتى صار عددهم الآن ثلاثة ملايين شاكري، موزعين على قطاعات سكنية، يتألف كل قطاع من ألف دار، وكل دار مساحتها 144 متراً مربعاً، تضيق بتلاصق الأبدان. كانت الفكرة من عمران ما خلف السدة، توسيع بغداد عرضياً، لتسهيل الخدمات والاتصال. ولهذا أُقيم مشروع قناة الجيش، الذي يربط مياه دجلة شمالاً بمياه ديالى جنوباً، ويتصل شاطئاها بـ (12) جسراً. ونشأت على الشاطئين حدائق غَناء، وإلى شرقها ظهرت أحياء لها مسحة أرستقراطية، قياساً بعمران مدينة الثورة الشعبي. مثل حي جميلة بوحيرد، عرف بهذا الاسم تكريماً للمقاتلة الجزائرية الشهيرة، إلا أنه اختُصِر إلى «جميلة» فقط، ولم يعد يُذكَّر ببنت بوحيرد.

بدأ مشروع الثورة بـ911 داراً، تحت اسم «مشروع أصحاب الصرائف» (مجلة العراق الجديد، آب 1960)، تبنت الدولة البناء، وسلمتها جاهزة لأهل الأكواخ والصرائف معبدة الأزقة، وفيها أحدث الخدمات. ثم أُطلق عليها اسم مدينة الثورة. وبعد انقلاب شباط 1963، بدل عبد السلام عارف اسمها إلى «حي الرافدين»، لكنها عادت لاسمها القديم سريعاً، ولم تعد الدولة لها مسؤولية تشييد الدور، بل اكتفت بمنح قطعة الأرض حسب.

أخبرني أحد شيوخ العشائر النازحة أنه توسط للحصول على قطاع كامل، ألف دار، لعشيرته، ولما رُفض طلبه غضب من عبد الكريم قاسم، وضرب عقاله بالأرض فرحاً بمقتله. إلا أن حمائل العشائر تقاربت في تساكنها، ونقلت سوانيها أو أعرافها حرفياً. وتعلقاً بالهوية العمرانية السابقة. وحسب ذاكرة طبيب العيون غازي جميل الموصلي، أن امرأة من أهل الشاكرية لم تتمكن من السكنى في الدار الجديدة إلا بعد أن شيدت لها صريفة من القصب في ساحة الدار.

تزايدت السُكنى في الشاكرية الجديدة، في ما بعد، وتوسعت حول أزقة ترابية وشوارع مغطاة بالأتربة والأوحال، إلى مدينة كبرى بصخبها، بعد أن كانت خلف السدة مجرد قرية تتبع الأعظمية إدارياً. جمعت كل أطياف العراق، يُقام الذكر الصوف السُنَّي في أزقتها وبيوتها، ويحتفل بعاشوراء في الساحات العامة، وفي وسطها حي يعرف بحي الأكراد. وفرت الثورة لبغداد، إلى جانب الصُناع والزراع وصغار الموظفين، أجيالاً من الفنانين والأدباء والشعراء، وكانت أرضاً خصبة لوجود منظمات الحزب الشيوعي العراقي، ثم الأحزاب الإسلامية الشيعية على وجه التحديد.

تحكمت العصابات بأهلها طويلاً، والحق يُقال أن السلطة البعثية، منذ نهاية الستينيات، تمكنت من تنظيفها من تلك العصابات بتشديد الحراسات الأهلية. والتفت صدام حسين إليها، وبدأ بتحسين أحوالها، غير أن الاهتمام تراجع إلى بؤس حقيقي. ومع ذلك لم يجد حزب البعث، وهو في السلطة، صعوبة في الانتشار في طولها وعِرضها، حتى أشارت وثائق مؤكدة إلى انتساب طلبة ثانويات مدينة الثورة كافة إلى البعث. وبطبيعة الحال، سرعان ما بدلت هذه الأعداد الولاء إلى القوى الدينية، ومنهم مَنْ يقود مجاميع مسلحة حالياً، ولم يتبدل شيء في المدينة سوى الصور وشخوص الهيمنة وتحولها من الدولة إلى الجماعات الدينية.

حالياً تهيمن جماعة الصدر المسلحة على الثورة، حتى تحولت إلى ثكنة لجيشها «المهدي». وأخذ مقتدى الصدر يتعامل مع المدينة على أنها عاصمته، وله هناك محاكمه الشرعية، وأدوات حكم: فروع مخابرات وقوى أمنية. جاء ذلك إثر تنازل الدولة عن المدينة وأهلها، عندما خضعت لتبديل تسميتها بالصدر تحت فرض العصابة، وعندما تركتها لمصيرها مع المحاكم الشرعية، ويظهر رئيس الوزراء معتذراً بعد كل شغب لجيش المهدي تحاول الدولة رده! وأذاعت قناة التلفزيون الرسمية خطاب مقتدى كزعيم لـ«دولة» «الصدر». وإضافة إلى بلواها بنظام العصابة، تعدد قتلة بؤساء الثورة: بعثيون، لا يحتاجون إلى مهارة في القتل والتنكيل، ويجدونها الأسهل هدفاً، وجماعات تكفيرية، يرون الثواب بكثرة القتلى من شراة الخبز، أو أطفال يتلقطون أرزاقهم في الأسواق. تجدد هجمات الموت الأخيرة صحة فرض الحواجز حول المدينة، حماية لها قبل أن تكون منها، وكان من المفروض أن لا يُتعجل برفعها!

من المضحكات المبكيات أن استشهد صدام حسين، وهو رئيس العراق، بسوق الثورة الشهير سوق «مُرَيدي»، معترضاً على صحة الوثائق المقدمة ضده في المحكمة. ففي ذلك السوق،
وهو سوق شعبي في عمق الثورة، تُزور فيه كل وثائق الدولة من الهوية المدرسية إلى الجواز الدبلوماسي. وتسمية «مُرَيدي» واحدة من التسميات الساخرة بواقع الحال، عُرف نسبة لاسم رجل بسيط، أصبحت له شهرة توازي شهرة صدام نفسه بالمنطقة. ومن سخريات أهل الثورة ببؤسهم أن أطلقوا اسم السفارة على علوة لبيع المواد الإنشائية، ففي المكان نفق حمار، وتُركت جيفته. وربما بدأت تسميتها حالياً بـ«مدينة الصدر المنورة» ضرباً من ضروب السخرية بواقع الحال، وبالحكام الجدد، أخذها خطباء الجمعة على محمل الجد، وأشاعوها من على أعواد المنابر.