محمدالفتلاوي
19-08-2009, 08:54 AM
دونما مؤهلات وظيفية أو خبرات مهنية في مجال عمله ودونما سنوات خدمة طويلة يتدرج عبرها الى منصبه، تسنح لبعض الناس فرصة التواجد في منصب مهم مرموق في دائرة رسمية ما.
وبدلاً من الاتكاء على تعامل أخلاقي طيب ورفيع مع موظفي تلك الدائرة، يغطي به عجزه المهني، يلجأ الموظف الرفيع المحظوظ هذا، الى غطرسة فارغة وسلوك بيروقراطي يمليه عليه أثاث مكتبه الوثير ومرتبه الضخم وحمايته، ليضفي على نفسه نوعاً من الهيبة المؤقتة التي كانت تعوزه من قبل والتي ترتبط حتماً بوجوده المفاجئ في مكانه الغريب عنه هذا.
هكذا سنحت لأحد أصدقائي (الطيبين) مثل هذه الفرصة النادرة لمنصب رفيع فلم يدع وسيلة معنوية ما يمكن استثمارها من خلال هذا المنصب الاّ وضع يده الطموح عليها حريصاً على اضفاء الهيبة على نفسه.
يومها كان الأستاذ (....) الذي كانت تربطه بي صداقة طيبة -قبل بلوغه منصبه- يتحيّن الفرص للقاء بي والحديث معي متفاخراً بصداقته لي، غير انه عندما بلغ برجه العاجي، أوصد الأبواب دون أصدقائه كلهم، محيطاً نفسه بشبكة من مكاتب الاستعلامات الصغيرة، أوكل اليها مهمة استجواب أصدقائه ومنعهم من الدخول الى مكتبه.
ولست أعرف كيف سوّغت لي نفسي فكرة أن أمرّ الى مكتبه لالقاء التحية عليه وتهنئته، وبعد حوار طويل مع موظف الاستعلامات في الرواق الأول المؤدي الى مكتبه، أقنعته بأنه صديقي المقرّب وانه سيهرع على عجل الى هذا المكان بمجرد سماعه لأسمي، هكذا رضخ الموظف المخلص لتعليمات مسؤوله الى طلبي وذهب لينقل الرسالة اليه، وقد كنت حينها أتوقع بالفعل أن يأتي المسؤول صاحبي برجليه الى مكتب الاستعلامات لاستقبالي، غير ان المفاجأة التي لم تخطر لي على بال قط، قد حدثت بالفعل، حين عاد لي موظف الاستعلامات ليخبرني بشماتة ظاهرة واعتزاز بالغ بادائه لواجبه قائلاً (ألم أقل لك.. إن الاستاذ مشغول الآن، وهو يطلب منك أن تمرّ عليه في يوم آخر!!)
حينها عدت الى مكتبي ساخطاً على كل شيء وعندما سألني أحد أصدقائي وكان صديقاً مقرباً جداً لذلك المسؤول نفسه -عن سبب تذمري أخبرته بما حدث، خفف وطأة الحزن عني، عندما قال لي بأن السلوك نفسه قد حدث له قبل بضعة أيام.
المهم، ان المسؤول هذا، قد تمت اقالته من منصبه بعد فترة قصيرة جداً من حادثتي معه، فسوّغت له نفسه هذه المرة أن يمرّ على موظفي دائرته مودعاً لهم وطالباً _(ابراء ذمته) فما كان مني ومن صاحبي الاّ مغادرة غرفتنا حين دخل اليها مشيحين بوجهينا عنه كبرياءً وتذكيراً له: بأن الهيبة التي كانت لديه آنذاك، لم تكن هيبة مستمدة من ذاته، انما كانت هي هيبة المكتب الذي كان فيه، أما وقد غادر المكتب الآن، فان هيبته المؤقتة، قد بقيت هناك مع آثاث مكتبه الوثير، وتفاصيل حياته الرفيعة المؤقتة.
ولأن للوقائع والأشياء أشباهها وأضدادها، أروي هنا حادثة أخرى كنت أنا بطلها ايضاً، مفادها، ان صداقة طيبة تربطني بالسيد مدير مكتب السيد المدير العام الحالي، ولأن الحديث المأثور يقول بأن (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين) فقد منعت نفسي من الذهاب الى مكتبه لتهنئته، فكان ان التقيته في باحة الدائرة فسلمت عليه، وسألني عن صحتي ودراستي، فأخبرته بأنني تخرجت في كلية الآداب- قسم الفلسفة- بتقدير امتياز وكنت الأول على القسمين الصباحي والمسائي، فطلب مني أن أصور له نسخة من شهادتي ففعلت ذلك وانتهى حوارنا عند هذا الحد.
بعد مضي ساعات اتصل بي صديقي مدير المكتب العام ليطلب مني الحضور الى مكتبه لشرب الشاي معه، فقال لي، انه نقل خبر تفوقي الى السيد المدير العام وانه اطلعه على شهادة تخرجي، فكان أن قدم السيد المدير العام شكره الخالص له لمتابعته شؤون الموظفين أولاً، ثم أطلعني على تأشيرة المدير العام على شهادة التخرج التي كانت تتضمن، تهنئة خاصة مهذبة وتوجيه باصدار أمر اداري بالشكر والتقدير لي مع مكافأة مالية.
وحين سألت نفسي عن طبيعة الفرق بين سلوكي صديقي آنفي الذكر، لم أجد في ذاتي جواباً أكثر بلاغة وصدقاً، من القول:
ان من الناس من يملأ المنصب الذي يشغله هيبةً وحضوراً، مستمدين من ذاته وحدها، لا من المكتب الوثير الذي يقيم فيه، غير ان من الناس أيضاً من يستمد كل هيبته وحضوره، من اثاث مكتبه ومن حمايته، وموظفي استعلاماته، في الحالة الأولى تصاحب الهيبة المسؤول وتنتقل معه، أنّى حلّ أو رحل، وفي الحالة الثانية، تكون الهيبة رهينة بمكتبه وحده، فما ان يغادر المكتب هذا، حتى تغادر ذاته أيضاً، كل تلك المظاهر الزائفة التي كان المكتب يضفيها عليه.
وبدلاً من الاتكاء على تعامل أخلاقي طيب ورفيع مع موظفي تلك الدائرة، يغطي به عجزه المهني، يلجأ الموظف الرفيع المحظوظ هذا، الى غطرسة فارغة وسلوك بيروقراطي يمليه عليه أثاث مكتبه الوثير ومرتبه الضخم وحمايته، ليضفي على نفسه نوعاً من الهيبة المؤقتة التي كانت تعوزه من قبل والتي ترتبط حتماً بوجوده المفاجئ في مكانه الغريب عنه هذا.
هكذا سنحت لأحد أصدقائي (الطيبين) مثل هذه الفرصة النادرة لمنصب رفيع فلم يدع وسيلة معنوية ما يمكن استثمارها من خلال هذا المنصب الاّ وضع يده الطموح عليها حريصاً على اضفاء الهيبة على نفسه.
يومها كان الأستاذ (....) الذي كانت تربطه بي صداقة طيبة -قبل بلوغه منصبه- يتحيّن الفرص للقاء بي والحديث معي متفاخراً بصداقته لي، غير انه عندما بلغ برجه العاجي، أوصد الأبواب دون أصدقائه كلهم، محيطاً نفسه بشبكة من مكاتب الاستعلامات الصغيرة، أوكل اليها مهمة استجواب أصدقائه ومنعهم من الدخول الى مكتبه.
ولست أعرف كيف سوّغت لي نفسي فكرة أن أمرّ الى مكتبه لالقاء التحية عليه وتهنئته، وبعد حوار طويل مع موظف الاستعلامات في الرواق الأول المؤدي الى مكتبه، أقنعته بأنه صديقي المقرّب وانه سيهرع على عجل الى هذا المكان بمجرد سماعه لأسمي، هكذا رضخ الموظف المخلص لتعليمات مسؤوله الى طلبي وذهب لينقل الرسالة اليه، وقد كنت حينها أتوقع بالفعل أن يأتي المسؤول صاحبي برجليه الى مكتب الاستعلامات لاستقبالي، غير ان المفاجأة التي لم تخطر لي على بال قط، قد حدثت بالفعل، حين عاد لي موظف الاستعلامات ليخبرني بشماتة ظاهرة واعتزاز بالغ بادائه لواجبه قائلاً (ألم أقل لك.. إن الاستاذ مشغول الآن، وهو يطلب منك أن تمرّ عليه في يوم آخر!!)
حينها عدت الى مكتبي ساخطاً على كل شيء وعندما سألني أحد أصدقائي وكان صديقاً مقرباً جداً لذلك المسؤول نفسه -عن سبب تذمري أخبرته بما حدث، خفف وطأة الحزن عني، عندما قال لي بأن السلوك نفسه قد حدث له قبل بضعة أيام.
المهم، ان المسؤول هذا، قد تمت اقالته من منصبه بعد فترة قصيرة جداً من حادثتي معه، فسوّغت له نفسه هذه المرة أن يمرّ على موظفي دائرته مودعاً لهم وطالباً _(ابراء ذمته) فما كان مني ومن صاحبي الاّ مغادرة غرفتنا حين دخل اليها مشيحين بوجهينا عنه كبرياءً وتذكيراً له: بأن الهيبة التي كانت لديه آنذاك، لم تكن هيبة مستمدة من ذاته، انما كانت هي هيبة المكتب الذي كان فيه، أما وقد غادر المكتب الآن، فان هيبته المؤقتة، قد بقيت هناك مع آثاث مكتبه الوثير، وتفاصيل حياته الرفيعة المؤقتة.
ولأن للوقائع والأشياء أشباهها وأضدادها، أروي هنا حادثة أخرى كنت أنا بطلها ايضاً، مفادها، ان صداقة طيبة تربطني بالسيد مدير مكتب السيد المدير العام الحالي، ولأن الحديث المأثور يقول بأن (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين) فقد منعت نفسي من الذهاب الى مكتبه لتهنئته، فكان ان التقيته في باحة الدائرة فسلمت عليه، وسألني عن صحتي ودراستي، فأخبرته بأنني تخرجت في كلية الآداب- قسم الفلسفة- بتقدير امتياز وكنت الأول على القسمين الصباحي والمسائي، فطلب مني أن أصور له نسخة من شهادتي ففعلت ذلك وانتهى حوارنا عند هذا الحد.
بعد مضي ساعات اتصل بي صديقي مدير المكتب العام ليطلب مني الحضور الى مكتبه لشرب الشاي معه، فقال لي، انه نقل خبر تفوقي الى السيد المدير العام وانه اطلعه على شهادة تخرجي، فكان أن قدم السيد المدير العام شكره الخالص له لمتابعته شؤون الموظفين أولاً، ثم أطلعني على تأشيرة المدير العام على شهادة التخرج التي كانت تتضمن، تهنئة خاصة مهذبة وتوجيه باصدار أمر اداري بالشكر والتقدير لي مع مكافأة مالية.
وحين سألت نفسي عن طبيعة الفرق بين سلوكي صديقي آنفي الذكر، لم أجد في ذاتي جواباً أكثر بلاغة وصدقاً، من القول:
ان من الناس من يملأ المنصب الذي يشغله هيبةً وحضوراً، مستمدين من ذاته وحدها، لا من المكتب الوثير الذي يقيم فيه، غير ان من الناس أيضاً من يستمد كل هيبته وحضوره، من اثاث مكتبه ومن حمايته، وموظفي استعلاماته، في الحالة الأولى تصاحب الهيبة المسؤول وتنتقل معه، أنّى حلّ أو رحل، وفي الحالة الثانية، تكون الهيبة رهينة بمكتبه وحده، فما ان يغادر المكتب هذا، حتى تغادر ذاته أيضاً، كل تلك المظاهر الزائفة التي كان المكتب يضفيها عليه.