الزميل
23-06-2009, 07:49 PM
السودان ودروس الازمه الاعلاميه الحكوميه في بريطانيا :تاملات مقارنه
د:عبد الوهاب الافندي
في فيلم روائي عرضته إحدى قنوات التلفزيون البريطاني أيام حكم رئيس الوزراء الأسبق توني بلير بعنوان 'محاكمة توني بلير'، يتخيل الراوي وقائع تسليم بلير إلى محكمة الجنايات الدولية ليحاكم على جريمة غزو العراق. وبحسب تلك الرواية المتخيلة فإن خليفة بلير (وهو غوردون براون) يقرر تسليمه على خلفية التنافس الحاد بينهما الذي يستمر بعد استقالة بلير، وغيرة الأخير من ارتفاع شعبية حزب العمال بصورة دراماتيكية بعد استقالته، مما يدفع به لتسريب معلومات سلبية عن غريمه للصحافة تؤدي إلى هبوط حاد في شعبية براون والحزب. وهذا بدوره يحفز براون الغاضب إلى توقيع قرار تسليم بلير الذي يظهر في آخر الفيلم وهو في طريقه مخفوراً إلى لاهاي.
لم يقلد الواقع السينما تماماً في التطورات اللاحقة، ولكنه لم يبعد كثيراً. فبالفعل قفزت شعبية حزب العمال بصورة حادة بعد تولي براون السلطة، وظل خلال الأشهر الأولى لتوليه السلطة يتقلب في رداء من الشعبية المتصاعدة والرضا العام في الإعلام. ولكن كل هذا انقلب فجأة حين ارتكب خطأً مفصلياً تمثل في إعطاء انطباع قوي بأنه بصدد إجراء انتخابات عامة مبكرة ثم تراجع عن ذلك مما أدى إلى ردة فعل إعلامية شعبية معادية كانت بداية انحدار مستمر لشعبيته. وقد بلغ الأمر بأركان حزبه أنهم كانوا بصدد الإجماع على تنحيته من قيادة الحزب في الصيف الماضي قبل أن ينقذه انفجار الأزمة الاقتصادية العالمية التي كشفت الأزمة فجأة عن قدراته في مجال تخصصه، وهو الاقتصاد، حيث تقدم بحلول تبنتها فيما بعد معظم دول العالم، وبدت بريطانيا تحت قيادته رائدة في مجال التعامل مع الأزمة.
ولكن برهة الانفراج التي حصل عليها براون كانت مؤقتة، حيث تواترت الأزمات على حكومة براون مما جعل شعبيته تنحدر من حضيض إلى حضيض أسفل. وكانت قاصمة الظهر الفضيحة البرلمانية التي تفجرت في الأسابيع الماضية حول نفقات نواب البرلمان، التي كانت حدثاً إعلامياً بامتياز. فقد بدأت بمعارضة الحكومة والبرلمان معاً لطلب بتطبيق قانون حرية المعلومات على نفقات نواب البرلمان، وتفجرت عندما حصلت صحيفة 'الديلي تلغراف' على السجل الكامل للنفقات وأخذت تنشرها تباعاً. ورغم أن الفضيحة طالت النواب من كل الأحزاب، إلا أن حزب العمال الحاكم بقيادة براون هو الذي دفع الثمن الأفدح حيث تراجع في انتخابات البرلمان الأوروبي (التي تزامنت مع الانتخابات البلدية في بعض المناطق) إلى المرتبة الثالثة. وقد دفع هذا التراجع بدوره بعض قادة الحزب إلى إجراء محاولة للإطاحة ببراون عبر استقالات منسقة كان ينتظر أن تؤدي إلى انهيار الحكومة وإجبار براون على الاستقالة.
هنا أيضاً كان الإعلام هو ساحة الصراع وأداته، حيث سدد أبرز رموز الفئة المتآمرة (إن صح التعبير)، وهو وزير العمل والمعاشات جيمس بيرنيل، ضربة معلم إعلامية حين وقت إعلان استقالته مع إغلاق صناديق الاقتراع في الانتخابات البلدية والأوروبية مساء الخميس (الرابع من حزيران/يونيو)، ورتب وصول نصها إلى الصحف الأربع الكبرى بحيث تظهر في طبعتها الأولى بدون أن يكون لمكتب رئيس الوزراء أو أي جهة حكومية علم بالخبر إلا قبل ربع ساعة من صدور الطبعات الأولى للصحف. وقد أدى هذا إلى إرباك الرد الرسمي وحدد مسار التغطية الإعلامية للأزمة. فقد كان الإعلام مهيأً وقتها لتغطية رد الفعل الرسمي على الهزيمة الانتخابية المتوقعة، وكان رد الفعل هذا يتمثل في تعديل وزاري اعتبره المراقبون الفرصة الأخيرة لبراون لإنقاذ زعامته المتهاوية بعد سلسلة استقالات لكبار الوزراء. ولكن استقالة بيرنيل حولت كل الأنظار إلى بقية أعضاء الحكومة، وخاصة وزير الخارجية دايفيد ميليباند المرشح الأبرز لخلافة براون.
هنا استعان براون بأحد أبرز عقول المناورات الإعلامية في الحزب، وهو وزير شؤون التجارة والأعمال بيتر مانديلسون، الذي يعتبر مهندس انتصار حزب العمال في الانتخابات العامة عام 1997 بعد قرابة عقدين قضاها الحزب في المعارضة. ويعتبر مانديلسون أحد أبرز من يطلق عليهم صفة 'حواة الإعلام' بسبب قدراته المشهود لها في هذا المجال، وإن كان نجاحه هنا لم ينفعه شخصياً، فكان طبيباً لا يداوي نفسه كما في المثل. ذلك أنه اضطر للاستقالة مرتين بسبب فضائح مالية تورط فيها.
وكان براون قد أعاد مانديلسون إلى الحكومة العام الماضي في مناورة اعتبرت وقتها ضربة معلم، خاصة وأن الأخير كان من المقربين من توني بلير ومنحازاً له في صراعه مع براون. وكنتيجة لذلك حول لورد مانديلسون (بحسب لقبه الجديد) ولاءه لبراون وسخر قدراته للدفاع عنه. وفي هذه الأزمة تحرك مانديلسون بسرعة عبر استصدار بيانات من مانديلسون وبقية أقطاب الحكومة ترفض دعوة بيرنيل لإقالة براون. وقبل منتصف نهار الجمعة كان فريق براون-مانديلسون قد كسب الجولة، حيث تحولت عناوين الأخبار من مانشيتات مثل: 'براون لا بد أن يرحل'، 'براون على الحافة'، إلى عناوين مثل: 'براون يعيد تشكيل الحكومة ويرفض دعوات الاستقالة.' وخلال يومين ظهرت عناوين مثل: 'لماذا فشلت المؤامرة لإسقاط براوان؟'.
ولكن بعيداً عن المناورات الوقتية للتحكم في عناوين الأخبار، فإن الثابت أن عهد براون قد شهد نقطة حاسمة توقف فيها صعود نجمه الإعلامي وبدأ فيها انحدار شعبيته. وكما هو الحال مع الإنسان العادي، فإن الإعلام في أي بلد قد يأخذ انطباعاً إيجابياً أو سلبياً عن زعيم أو نظام معين، يبدأ بعدها في تتبع عيوبه أو التركيز على إيجابياته. ومن ناحية عامة فإن الإعلام الحر يميل إلى التركيز على السلبيات لأنها تثير الاهتمام وتأتي بعائد تجاري أفضل. ولكن هناك لحظات نادرة ينجح فيها زعيم أو نظام في تأمين تغطية إيجابية إجمالياً رغم المصاعب وكثرة المنتقدين. وقد كان هذا شأن الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان، ولاحقاً الرئيس بيل كلينتون. وفي بريطانيا كان هذا حال توني بلير في أول عهده ومارغريت ثاتشر في منتصف فترة حكمها، وشأن الرئيس أوباما حالياً.
وبالمقابل فإن أي نظام أو شخصية عامة قد يفقدان بعد لحظة حاسمة رضا الإعلام ومعه دعم الشارع، كما حدث للرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون بعد أزمة ووترغيت، أو لخلفه كارتر بعد أزمة الرهائن في طهران، أو لثاتشر بعد تفجر الخلاف داخل حكومتها حول أوروبا، أو لتوني بلير بعد حرب العراق، أو لبراون بعد تراجعه عن إجراء الانتخابات. وعندها فإن كل فعل يأتي به الشخص المعني، مهما كان إيجابياً، لا يفسر لصالحه.
وفي كثير من الأحيان فإن هذه المشكلة تكون من صنع الشخص أو النظام، كما كان حال نيكسون مع ووترغيت، أو براون حين سمح بإعطاء الانطباع بأنه على وشك الدعوة لانتخابات ثم تراجع عن ذلك في آخر لحظة. ولكن لعل الإشكال الأكبر في معظم هذه الأحوال، كما كان الحال مع براون، هو تضييق حلقة التواصل مع الإعلام عبر تبني أسلوب الصوت الواحد والرسالة الواحدة. وقد كان توني بلير هو الذي تبنى أسلوب التحكم المركزي في الرسالة الرسمية عبر مكتبه الإعلامي ومستشاره المقرب ألستير كامبيل الذي كان يصر على الهيمنة على كل ما يصدر إعلامياً من كل الوزارات، مما أكسبه عداء أجهزة الإعلام. وقد عزز براون من هذه المركزية حتى اتهم من قبل بعض خصومه بالستالينية. فالإعلاميون يكرهون من يعتقدون أنه يخادعهم ويتربصون به الدوائر.
غني عن الذكر إننا نتحدث هنا عن التعامل مع الإعلام في البيئة الديمقراطية، حيث يفتقد الحاكم السيطرة المباشرة على الإعلام، ولكن الحكومة بطبيعتها تكون في تناغم مع المناخ الإعلامي السائد بمعنى التطابق إلى حد كبير بين قناعات النخبة الحاكمة والنخبة العاملة في مجال الإعلام. والأمر يختلف بالطبع بالنسبة للأنظمة غير الديمقراطية أو ذات الديمقراطية المقيدة. ولكن حتى هنا فإن هذه الأنظمة حين تتعامل مع الإعلام العالمي تجد نفسها مضطرة للتعامل معه بصيغة ديمقراطية، ببساطة لأنها لا تستطيع استخدام القهر أو الإغراء كما تفعل في بلدانها، وإنما تضطر لاستخدام الإقناع. وهنا نجد تفاوتاً في حظوظ الأنظمة في القبول والرفض. على سبيل المثال نجد نظام نيريري في تنزانيا كان يجد حظاً كبيراً من القبول والرضا في الإعلام الغربي رغم انتهاجه نهجاً اشتراكياً وسياسة خارجية مستقلة، بينما نجد أنظمة موالية للغرب مثل نظام الشاه سابقاً والنظام السعودي أو المصري كانت لا تكاد تحصل على تغطية إيجابية. وحالياً نجد أن النظامين الاثيوبي واليوغندي الحاليين يتمتعان بقبول واسع رغم نهجهما غير الديمقراطي، بينما تواجه دول أخرى موقفاً سلبياً.
وتعود سلبية الموقف بقدر كبير إلى الممارسة الفعلية للأنظمة. على سبيل المثال فإن ممارسات نظام عيدي أمين في يوغندا كانت من البشاعة لدرجة أنه كان من الصعب تحسين صورته، حتى لو تكن هناك مبالغة في التغطية الإعلامية لسلبيات نظامه. ولكن بالمقابل نجد أن المبعوث الأمريكي السابق إلى السودان أندرو ناتسيوس واجه صعوبة في إقناع لجنة استماع في الكونغرس بأن ما كان يحدث عند الإدلاء بشهادته من فظائع وحوادث قتل في تشاد يفوق بكثير ما كان يحدث في دارفور.
النظام السوداني الحالي واجه منذ قيامه صورة إعلامية دولية غاية في السلبية، وهي صورة لم تتغير رغم أن النظام تغير كثيراً خاصة بعد إبرام اتفاقية السلام الشامل في كانون الثاني/يناير 2005 وعودة كثير من المعارضين وقيام عدد من الصحف المستقلة. ويعود هذا إلى استمرار الممارسات السلبية من جهة (مثل الرقابة على الصحف وبقية الممارسات غير الديمقراطية) واستمرار الأزمات الكبرى مثل أزمة دارفور. والإعلام الدولي بطبيعته لا يلتفت كثيراً إلى التفاصيل حينما يتعلق الأمر بالدول الأجنبية البعيدة، بل يرسم صورة تستند إلى خطوط عريضة. فإذا كانت هناك حرب أهلية في الجنوب أو دارفور، فإن كل التفاصيل الأخرى لن تؤثر في التغطية.
عندما كنا جزءاً من الحوار الدائر حول صورة النظام في الخارج كان رأينا هو أن الصورة هي إلى حد كبير انعكاس للأصل، وأن الأولوية يجب أن تكون للحوار الداخلي بين الفرقاء السودانيين، بدءاً بالحوار الرامي لإنهاء الحرب الأهلية. فالحوار مع الإعلام الخارجي لا بد أن يعكس الحوار الداخلي بين الفرقاء السودانيين. والحوار بطبيعته هو أخذ وعطاء، حيث لا بد أيضاً من الاستماع إلى الصوت الآخر وتقديم التنازلات. ونحن ما زلنا نرى أن هذا هو النهج الصحيح للتعامل مع الوضع، سواء أكان ذلك في دارفور أو غيرها.
البعض يعزو إشكالية غوردون براون مع الإعلام إلى أنه يفتقد قدرات التعبير والبلاغة التي كان يمتلكها أمثال بلير وكلنتون (ويتمتع بها أوباما حالياً). ولكن هذا جزء فقط من المشكلة، لأن الحكومة في نظام ديمقراطي يمكن أن تستعين بخبراء ومتحدثين في كل المجالات. وتكمن المشكلة في أن براون يضيق هامش المناورة على مساعديه ويكبت الحوار الداخلي في الحكومة.
وبنفس القدر فإن كبت الحوار الداخلي كان ولايزال هو لب الأزمة السودانية. كثير من المسؤولين السودانيين ـ مثل رصفائهم الإيرانيين حالياً- يكثرون من ترداد التهم بتحامل الإعلام الدولي ضدهم (ويضيف السودانيون: حتى الإعلام السوداني). والحقيقة أن لب الأزمة يعود إلى افتقاد آليات وقدرات الحوار داخلياً. فلو كانت الحكومة طورت قدراتها للحوار والإقناع داخلياً لسهل كذلك كثيراً استخدام أدوات الإقناع دولياً.
' كاتب وباحث سوداني مقيم في لندن
92
د:عبد الوهاب الافندي
في فيلم روائي عرضته إحدى قنوات التلفزيون البريطاني أيام حكم رئيس الوزراء الأسبق توني بلير بعنوان 'محاكمة توني بلير'، يتخيل الراوي وقائع تسليم بلير إلى محكمة الجنايات الدولية ليحاكم على جريمة غزو العراق. وبحسب تلك الرواية المتخيلة فإن خليفة بلير (وهو غوردون براون) يقرر تسليمه على خلفية التنافس الحاد بينهما الذي يستمر بعد استقالة بلير، وغيرة الأخير من ارتفاع شعبية حزب العمال بصورة دراماتيكية بعد استقالته، مما يدفع به لتسريب معلومات سلبية عن غريمه للصحافة تؤدي إلى هبوط حاد في شعبية براون والحزب. وهذا بدوره يحفز براون الغاضب إلى توقيع قرار تسليم بلير الذي يظهر في آخر الفيلم وهو في طريقه مخفوراً إلى لاهاي.
لم يقلد الواقع السينما تماماً في التطورات اللاحقة، ولكنه لم يبعد كثيراً. فبالفعل قفزت شعبية حزب العمال بصورة حادة بعد تولي براون السلطة، وظل خلال الأشهر الأولى لتوليه السلطة يتقلب في رداء من الشعبية المتصاعدة والرضا العام في الإعلام. ولكن كل هذا انقلب فجأة حين ارتكب خطأً مفصلياً تمثل في إعطاء انطباع قوي بأنه بصدد إجراء انتخابات عامة مبكرة ثم تراجع عن ذلك مما أدى إلى ردة فعل إعلامية شعبية معادية كانت بداية انحدار مستمر لشعبيته. وقد بلغ الأمر بأركان حزبه أنهم كانوا بصدد الإجماع على تنحيته من قيادة الحزب في الصيف الماضي قبل أن ينقذه انفجار الأزمة الاقتصادية العالمية التي كشفت الأزمة فجأة عن قدراته في مجال تخصصه، وهو الاقتصاد، حيث تقدم بحلول تبنتها فيما بعد معظم دول العالم، وبدت بريطانيا تحت قيادته رائدة في مجال التعامل مع الأزمة.
ولكن برهة الانفراج التي حصل عليها براون كانت مؤقتة، حيث تواترت الأزمات على حكومة براون مما جعل شعبيته تنحدر من حضيض إلى حضيض أسفل. وكانت قاصمة الظهر الفضيحة البرلمانية التي تفجرت في الأسابيع الماضية حول نفقات نواب البرلمان، التي كانت حدثاً إعلامياً بامتياز. فقد بدأت بمعارضة الحكومة والبرلمان معاً لطلب بتطبيق قانون حرية المعلومات على نفقات نواب البرلمان، وتفجرت عندما حصلت صحيفة 'الديلي تلغراف' على السجل الكامل للنفقات وأخذت تنشرها تباعاً. ورغم أن الفضيحة طالت النواب من كل الأحزاب، إلا أن حزب العمال الحاكم بقيادة براون هو الذي دفع الثمن الأفدح حيث تراجع في انتخابات البرلمان الأوروبي (التي تزامنت مع الانتخابات البلدية في بعض المناطق) إلى المرتبة الثالثة. وقد دفع هذا التراجع بدوره بعض قادة الحزب إلى إجراء محاولة للإطاحة ببراون عبر استقالات منسقة كان ينتظر أن تؤدي إلى انهيار الحكومة وإجبار براون على الاستقالة.
هنا أيضاً كان الإعلام هو ساحة الصراع وأداته، حيث سدد أبرز رموز الفئة المتآمرة (إن صح التعبير)، وهو وزير العمل والمعاشات جيمس بيرنيل، ضربة معلم إعلامية حين وقت إعلان استقالته مع إغلاق صناديق الاقتراع في الانتخابات البلدية والأوروبية مساء الخميس (الرابع من حزيران/يونيو)، ورتب وصول نصها إلى الصحف الأربع الكبرى بحيث تظهر في طبعتها الأولى بدون أن يكون لمكتب رئيس الوزراء أو أي جهة حكومية علم بالخبر إلا قبل ربع ساعة من صدور الطبعات الأولى للصحف. وقد أدى هذا إلى إرباك الرد الرسمي وحدد مسار التغطية الإعلامية للأزمة. فقد كان الإعلام مهيأً وقتها لتغطية رد الفعل الرسمي على الهزيمة الانتخابية المتوقعة، وكان رد الفعل هذا يتمثل في تعديل وزاري اعتبره المراقبون الفرصة الأخيرة لبراون لإنقاذ زعامته المتهاوية بعد سلسلة استقالات لكبار الوزراء. ولكن استقالة بيرنيل حولت كل الأنظار إلى بقية أعضاء الحكومة، وخاصة وزير الخارجية دايفيد ميليباند المرشح الأبرز لخلافة براون.
هنا استعان براون بأحد أبرز عقول المناورات الإعلامية في الحزب، وهو وزير شؤون التجارة والأعمال بيتر مانديلسون، الذي يعتبر مهندس انتصار حزب العمال في الانتخابات العامة عام 1997 بعد قرابة عقدين قضاها الحزب في المعارضة. ويعتبر مانديلسون أحد أبرز من يطلق عليهم صفة 'حواة الإعلام' بسبب قدراته المشهود لها في هذا المجال، وإن كان نجاحه هنا لم ينفعه شخصياً، فكان طبيباً لا يداوي نفسه كما في المثل. ذلك أنه اضطر للاستقالة مرتين بسبب فضائح مالية تورط فيها.
وكان براون قد أعاد مانديلسون إلى الحكومة العام الماضي في مناورة اعتبرت وقتها ضربة معلم، خاصة وأن الأخير كان من المقربين من توني بلير ومنحازاً له في صراعه مع براون. وكنتيجة لذلك حول لورد مانديلسون (بحسب لقبه الجديد) ولاءه لبراون وسخر قدراته للدفاع عنه. وفي هذه الأزمة تحرك مانديلسون بسرعة عبر استصدار بيانات من مانديلسون وبقية أقطاب الحكومة ترفض دعوة بيرنيل لإقالة براون. وقبل منتصف نهار الجمعة كان فريق براون-مانديلسون قد كسب الجولة، حيث تحولت عناوين الأخبار من مانشيتات مثل: 'براون لا بد أن يرحل'، 'براون على الحافة'، إلى عناوين مثل: 'براون يعيد تشكيل الحكومة ويرفض دعوات الاستقالة.' وخلال يومين ظهرت عناوين مثل: 'لماذا فشلت المؤامرة لإسقاط براوان؟'.
ولكن بعيداً عن المناورات الوقتية للتحكم في عناوين الأخبار، فإن الثابت أن عهد براون قد شهد نقطة حاسمة توقف فيها صعود نجمه الإعلامي وبدأ فيها انحدار شعبيته. وكما هو الحال مع الإنسان العادي، فإن الإعلام في أي بلد قد يأخذ انطباعاً إيجابياً أو سلبياً عن زعيم أو نظام معين، يبدأ بعدها في تتبع عيوبه أو التركيز على إيجابياته. ومن ناحية عامة فإن الإعلام الحر يميل إلى التركيز على السلبيات لأنها تثير الاهتمام وتأتي بعائد تجاري أفضل. ولكن هناك لحظات نادرة ينجح فيها زعيم أو نظام في تأمين تغطية إيجابية إجمالياً رغم المصاعب وكثرة المنتقدين. وقد كان هذا شأن الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان، ولاحقاً الرئيس بيل كلينتون. وفي بريطانيا كان هذا حال توني بلير في أول عهده ومارغريت ثاتشر في منتصف فترة حكمها، وشأن الرئيس أوباما حالياً.
وبالمقابل فإن أي نظام أو شخصية عامة قد يفقدان بعد لحظة حاسمة رضا الإعلام ومعه دعم الشارع، كما حدث للرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون بعد أزمة ووترغيت، أو لخلفه كارتر بعد أزمة الرهائن في طهران، أو لثاتشر بعد تفجر الخلاف داخل حكومتها حول أوروبا، أو لتوني بلير بعد حرب العراق، أو لبراون بعد تراجعه عن إجراء الانتخابات. وعندها فإن كل فعل يأتي به الشخص المعني، مهما كان إيجابياً، لا يفسر لصالحه.
وفي كثير من الأحيان فإن هذه المشكلة تكون من صنع الشخص أو النظام، كما كان حال نيكسون مع ووترغيت، أو براون حين سمح بإعطاء الانطباع بأنه على وشك الدعوة لانتخابات ثم تراجع عن ذلك في آخر لحظة. ولكن لعل الإشكال الأكبر في معظم هذه الأحوال، كما كان الحال مع براون، هو تضييق حلقة التواصل مع الإعلام عبر تبني أسلوب الصوت الواحد والرسالة الواحدة. وقد كان توني بلير هو الذي تبنى أسلوب التحكم المركزي في الرسالة الرسمية عبر مكتبه الإعلامي ومستشاره المقرب ألستير كامبيل الذي كان يصر على الهيمنة على كل ما يصدر إعلامياً من كل الوزارات، مما أكسبه عداء أجهزة الإعلام. وقد عزز براون من هذه المركزية حتى اتهم من قبل بعض خصومه بالستالينية. فالإعلاميون يكرهون من يعتقدون أنه يخادعهم ويتربصون به الدوائر.
غني عن الذكر إننا نتحدث هنا عن التعامل مع الإعلام في البيئة الديمقراطية، حيث يفتقد الحاكم السيطرة المباشرة على الإعلام، ولكن الحكومة بطبيعتها تكون في تناغم مع المناخ الإعلامي السائد بمعنى التطابق إلى حد كبير بين قناعات النخبة الحاكمة والنخبة العاملة في مجال الإعلام. والأمر يختلف بالطبع بالنسبة للأنظمة غير الديمقراطية أو ذات الديمقراطية المقيدة. ولكن حتى هنا فإن هذه الأنظمة حين تتعامل مع الإعلام العالمي تجد نفسها مضطرة للتعامل معه بصيغة ديمقراطية، ببساطة لأنها لا تستطيع استخدام القهر أو الإغراء كما تفعل في بلدانها، وإنما تضطر لاستخدام الإقناع. وهنا نجد تفاوتاً في حظوظ الأنظمة في القبول والرفض. على سبيل المثال نجد نظام نيريري في تنزانيا كان يجد حظاً كبيراً من القبول والرضا في الإعلام الغربي رغم انتهاجه نهجاً اشتراكياً وسياسة خارجية مستقلة، بينما نجد أنظمة موالية للغرب مثل نظام الشاه سابقاً والنظام السعودي أو المصري كانت لا تكاد تحصل على تغطية إيجابية. وحالياً نجد أن النظامين الاثيوبي واليوغندي الحاليين يتمتعان بقبول واسع رغم نهجهما غير الديمقراطي، بينما تواجه دول أخرى موقفاً سلبياً.
وتعود سلبية الموقف بقدر كبير إلى الممارسة الفعلية للأنظمة. على سبيل المثال فإن ممارسات نظام عيدي أمين في يوغندا كانت من البشاعة لدرجة أنه كان من الصعب تحسين صورته، حتى لو تكن هناك مبالغة في التغطية الإعلامية لسلبيات نظامه. ولكن بالمقابل نجد أن المبعوث الأمريكي السابق إلى السودان أندرو ناتسيوس واجه صعوبة في إقناع لجنة استماع في الكونغرس بأن ما كان يحدث عند الإدلاء بشهادته من فظائع وحوادث قتل في تشاد يفوق بكثير ما كان يحدث في دارفور.
النظام السوداني الحالي واجه منذ قيامه صورة إعلامية دولية غاية في السلبية، وهي صورة لم تتغير رغم أن النظام تغير كثيراً خاصة بعد إبرام اتفاقية السلام الشامل في كانون الثاني/يناير 2005 وعودة كثير من المعارضين وقيام عدد من الصحف المستقلة. ويعود هذا إلى استمرار الممارسات السلبية من جهة (مثل الرقابة على الصحف وبقية الممارسات غير الديمقراطية) واستمرار الأزمات الكبرى مثل أزمة دارفور. والإعلام الدولي بطبيعته لا يلتفت كثيراً إلى التفاصيل حينما يتعلق الأمر بالدول الأجنبية البعيدة، بل يرسم صورة تستند إلى خطوط عريضة. فإذا كانت هناك حرب أهلية في الجنوب أو دارفور، فإن كل التفاصيل الأخرى لن تؤثر في التغطية.
عندما كنا جزءاً من الحوار الدائر حول صورة النظام في الخارج كان رأينا هو أن الصورة هي إلى حد كبير انعكاس للأصل، وأن الأولوية يجب أن تكون للحوار الداخلي بين الفرقاء السودانيين، بدءاً بالحوار الرامي لإنهاء الحرب الأهلية. فالحوار مع الإعلام الخارجي لا بد أن يعكس الحوار الداخلي بين الفرقاء السودانيين. والحوار بطبيعته هو أخذ وعطاء، حيث لا بد أيضاً من الاستماع إلى الصوت الآخر وتقديم التنازلات. ونحن ما زلنا نرى أن هذا هو النهج الصحيح للتعامل مع الوضع، سواء أكان ذلك في دارفور أو غيرها.
البعض يعزو إشكالية غوردون براون مع الإعلام إلى أنه يفتقد قدرات التعبير والبلاغة التي كان يمتلكها أمثال بلير وكلنتون (ويتمتع بها أوباما حالياً). ولكن هذا جزء فقط من المشكلة، لأن الحكومة في نظام ديمقراطي يمكن أن تستعين بخبراء ومتحدثين في كل المجالات. وتكمن المشكلة في أن براون يضيق هامش المناورة على مساعديه ويكبت الحوار الداخلي في الحكومة.
وبنفس القدر فإن كبت الحوار الداخلي كان ولايزال هو لب الأزمة السودانية. كثير من المسؤولين السودانيين ـ مثل رصفائهم الإيرانيين حالياً- يكثرون من ترداد التهم بتحامل الإعلام الدولي ضدهم (ويضيف السودانيون: حتى الإعلام السوداني). والحقيقة أن لب الأزمة يعود إلى افتقاد آليات وقدرات الحوار داخلياً. فلو كانت الحكومة طورت قدراتها للحوار والإقناع داخلياً لسهل كذلك كثيراً استخدام أدوات الإقناع دولياً.
' كاتب وباحث سوداني مقيم في لندن
92