طالباني.. الرئاسة المحشورة

لا يتأثر مام جلال ولا يثور.. ويفضل بلوغ مآربه بكثير من الهدوء وعلى الناعم
منتديات الفرات

زهير المخ*
تحاول الأطياف السياسية العراقية اليوم، أن توظّف دور كرسي رئاسة الجمهورية لصالحها بوسائل متفاوتة بين المرونة والتودد. فالرئاسة هي اليوم، على نقيض ما كانت عليه بالأمس القريب، محشورة بين الجميع. ويدرك جلال طالباني هذا الواقع، إلا أنه يحاول جاهداً تحويل هذا الدور من «لعبة بيد الآخرين إلى لاعب مع الآخرين»، ومن كرسي في مهب رياح الاستقطابات السياسية الداخلية الحادة، إلى سلطة اعتبارية يحسب الجميع حسابها، إن في الحل أو في الربط. يتقلّب «مام» (العم) جلال مع متغيرات السياسة الداخلية والإقليمية والدولية على حد سواء، فطوراً يضع «قناع» الاعتدال، وطوراً آخر يظهر بوجه التطرف، سلماً كان أم حرباً، فهو يجمع في شخصه بعدي التناقض المزدوج، حسب الظروف وحسبما تقتضي المصلحة. البعض يرى في هذا الأسلوب دهاء وازدواجية، فيما يعتبره البعض الآخر ركناً متقدماً في علم التفاوض، والحقيقة انه الاثنان معاً.

لا يتأثر مام جلال ولا يثور، ويفضل بلوغ مآربه بكثير من الهدوء وعلى الناعم. ولم تؤثر هويته الكردية في لغته وسلوكه، فهو لا يتحدث إلا بلسان عربي فصيح. يحذر الوقوع في مطبات المواقف المتحجرة ويتحاشى الغرق في التنظير. وبكثير من الغموض، يحاول مام جلال أن يجمع بين مفاهيم متباعدة وربما متناقضة: الهوية الكردية والانتماء العراقي، والاشتراكية والليبرالية، يرفض امتدادات ماضي السلطة المركزية، ويرغب جدياً في المساهمة بتحديد ملامح مستقبل الحكم الفيدرالي في العراق.

لقد صقلت فيه تنشئته السياسية، موهبة ركوب الموجة في ذروة ارتفاعها والعودة بها إلى حيث يريد، وهو مدهش بإخفاء مقاصده حتى على أقرب المقربين إليه. يمارس سياسة حافة الهاوية، ولكنه يستطيع التوقف في الوقت الملائم على مسافة قصيرة من الحافة. صياد محترف، يعرف كيف يطلق سهامه في الوقت الملائم والهدف المناسب. فصورته حاضرة دائماً، إن في ساحات الوغى أو في التسويات السياسية. يحسب لكل شيء حسابه، فلا يربط مصيره بمصير حليف محلي أو إقليمي أو دولي قد ينقلب ذات يوم خصماً، ويجسّد صراعُه أو تفاهمُه مع تركيبة الحكم العراقية خير نموذج لسياسات التحالفات البديلة. إنه يجيد بمهارة اختيار ساعته، ففي الوقت الذي يجد نفسه في موقع ضعيف، يعتبر أن أي تسوية تقع في خانة «الابتزاز»، وإذا كان موقعه عكس ذلك يعتبر كل حل معروض ليس «مقدساً»، فهو لا يتراجع عندما يكون ضعيفاً، ولا يغفر عندما يكون قوياً، فكل حل معروض له ثمن، ولكن ليس كل ما هو معروض عليه يقبله بأي ثمن كان. لقد طوّر مام جلال أسلوباً في الرئاسة، بحيث جعل منه مذهباً متعدد الوجوه، يرتكز على مبادئ أساسية من بينها:

أولاً: إدارة الأزمة العراقية على أساس استبعاد أي حل يؤدي إلى نزاع مفتوح بين الأطياف السياسية العراقية، قد يؤدي إلى تأجيج أوار الحرب الأهلية وشبح التقسيم، واستبداله بلعبة مفتوحة تضع حلاً يرضي إلى حد ما، أطراف النزاع المختلفة. وبقدر ما يكون النزاع معقداً ومطالب الأطراف العراقية غير قابلة للتوفيق فيما بينها، يبدو الحل المؤقت مقبولاً بل أقل تكلفة، وبالتالي يشعر المتنازعون أن عليهم أن يرتبوا أوضاعهم داخله.

ثانياً: التمسك بمبدأ منع دول الجوار العراقي على التدخل بشؤون العراق الداخلية، وعلى نحو خاص إيران، وذلك لاعتبار بسيط وهو أن إيران «مؤهلة» و«قادرة» أكثر من غيرها للعب أدوار متباينة في العراق بحكم العلاقات التاريخية مع الحالة الشيعية العراقية والتقارب الجغرافي. ويدرك مام جلال أن «خريطة طريق» التدخل الإيراني في الشأن العراقي معقدة إلى حد كبير، فهي تتراوح بين التدخل «المباشر» و«غير المباشر»، من بينها شراء الولاءات عبر واجهات «اجتماعية خيرية». ثالثاً: التأكيد على الحاجة إلى وجود قوات عسكرية أميركية في العراق، وبحسب رأيه، «على مدى طويل»، لمنع التدخل الأجنبي في الشأن العراقي، أي أن مفهوم الأمن لديه يتخطى مفهوم السيادة الوطنية.

محام ومناضل، يجمع في شخصه «حكمة» الشيوخ و«حماسة» الشباب، وهو موهوب بطاقة جدلية قلّ مثيلها، سريع البديهة، ولا تعوزه الحيلة عندما يريد التملص من موقف أو التهرب من قرار، لكنه من طينة السياسيين الذين يدافعون عن قضيتهم بكل إيمان وحزم. نضاله الطويل مستمر منذ أكثر من نصف قرن. أما قصة حياته فهي اختصار لقصة العراق خلال هذه الحقبة المضطربة من تاريخه. إنه كطائر الفينيق لا يموت إلا لينهض حياً من جديد.

ولد «مام» جلال في عام 1933 في كلكان قرب سد دوكان. وفي مرحلة دراسته الابتدائية والمتوسطة توجّب عليه الانتقال إلى كوي سنجق، ومن ثم إلى أربيل وكركوك لاستكمال دراسته الثانوية في مدارسهما. في هذه الحقبة، برز جلال، وهو لا يزال بعد على مقاعد الدراسة الأولية، كموجّه لجمعية سريّة للطلبة الأكراد، وهي إحدى الجمعيات التي انتشرت آنذاك كالفطر انعكاساً لتزايد الوعي القومي الكردي. ولم يكد يمضي وقت طويل حتى انتسب جلال إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني برئاسة الزعيم الملهم الملا مصطفى بارزاني، وفي عام 1951 انتخب عضواً في اللجنة المركزية للحزب. وفي ذلك العام تحديداً، كانت لدى مام جلال رغبة جامحة لاستكمال دراسته الجامعية في فرع كان ينأى به بعيداً، ولو نسبياً، عن اهتماماته السياسية، حيث تقدّم بطلب للانتساب إلى كلية الطب، لكن طلبه قوبل بالرفض ربما بسبب نشاطاته السياسية المعادية آنذاك للنظام الدستوري الملكي.

لكن «الرفض» لم يكن مطلقاً، على أي حال، ولم تغلق في وجهه بوابات جامعة بغداد، ففي عام 1953 انتسب إلى كلية الحقوق، وظل داعية لا تعوزه الحماسة في الدفاع عن حق الأكراد في الممارسة السياسية العلنية، وكان آنذاك سكرتيراً عاماً لاتحاد الطلبة الكردستاني. ويبدو أن السلطة ضاقت ذرعاً بنشاطاته فتحركت لإلقاء القبض عليه عام 1956، لكنه استطاع الإفلات من قبضتها والاختفاء عن الأنظار اتقاء لما لا تحمد عقباه. لكن طالباني سرعان ما عاد بعد انقلاب يوليو (تموز) 1958 إلى مقاعد الدراسة من جديد، وانغمس في الوقت ذاته في مهنة الصحافة المحببة لديه، فاستطاع في فترة زمنية قياسية أن يرأس تحرير صحيفتي «خه بات» (النضال) و«كردستان»، فكانتا ساحة مفتوحة لطرح أفكار الحزب الديمقراطي الكردستاني وتطلعاته السياسية. إثر تخرجه في عام 1959، استدعي مام جلال لأداء الخدمة العسكرية الإلزامية، فكانت هذه لفترة بمثابة تجربة أولية للانخراط اللاحق في قوات «البيشمركة». وبالفعل، مع انكسار التحالف بين الأكراد ونظام عبد الكريم قاسم في أواخر عام 1960 لم يهدر طالباني مزيداً من الوقت كي يختط له مستقبلاً مختلفاً. ففي سبتمبر (أيلول) 1961، اندلعت المعارك بين الطرفين ووجد مام جلال نفسه مسؤولاً عسكرياً على جبهتي كركوك والسليمانية في المواجهة مع قوات الحكومة المركزية في بغداد. وفي مارس (آذار) 1962 قاد هجوماً مضاداً لاستعادة منطقة شربازير من أيدي القوات العسكرية الحكومية.

ظلت المعارك مستمرة بين الطرفين، حتى بعد سقوط نظام عبد الكريم قاسم، فتتالت اتفاقات الهدنة ووقف النار والمقترحات الحكومية لحل المسألة الكردية، فيما قاد مام جلال بنفسه في عام 1963 جولة مباحثات مع الرئيس العراقي الأسبق عبد السلام عارف، لكن أياً من الطرفين لم يقتنع بوجهة نظر الطرف الآخر. وربما لم يكن عارف ولا الملا مصطفى بارزاني، قادرين على التفاوض والخروج باتفاق حقيقي من دون حصول انقلاب عسكري في بغداد، أو نشوب خلاف مع التيار الوطني المديني بين الأكراد، خصوصاً الفريق الذي يمثله جلال وإبراهيم foraten.net/?foraten.net/?foraten.net/?foraten.net/? وكان أقوى نفوذاً في جنوب كردستان، لا سيما في السليمانية. ولما وصل البعث إلى السلطة مرة ثانية في عام 1968 كانت المسألة الكردية ما زالت من دون حل.

في هذا الشأن، اختطت السلطة المركزية الجديدة في بغداد سياسة تقضي بإبراز جلال طالباني وجناحه في الحزب الديمقراطي الكردستاني، كبديل للقيادة البارزانية التقليدية. وفي القتال الذي دار بين الجماعتين الكرديتين المتنافستين، ساندت السلطة المركزية في بغداد جناح طالباني، لكن بارزاني سرعان ما حسم الموقف لصالحه، وإن ليس بصورة مطلقة. في خلال ذلك، لجأت السلطة في بغداد إلى تغيير استراتيجيتها والتفاوض مع بارزاني، وأثمر التفاوض، كما هو معروف، على توقيع اتفاق الحكم الذاتي للأكراد في عام 1970 الذي كان في نظر جلال بمثابة تفريط في الحقوق الكردية الثابتة، لأن الاتفاق استبعد مدينة كركوك من منطقة الحكم الذاتي، التي كان يعتبرها بمثابة مدينة «القدس» بالنسبة للفلسطينيين.

وبانهيار الحركة الكردية المسلحة في مارس (آذار) 1975، كان على جلال أن يمتص نتائج الكارثة سريعاً، وأن يتحرك مع عدد من الكادرات الكردية باتجاه إقامة تنظيم جديد يبتعد قدر الإمكان عن الولاءات العائلية والعشائرية، فكان انبثاق الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامته هذه المرة. وبالطبع كان للتغيير الذي عصف بإيران الشاه في 1979 أثر في صعود الاتحاد الوطني الكردستاني وزعيمه جلال طالباني إلى واجهة الأحداث في منطقة متاخمة أساساً للحدود مع إيران، فبدأ مام جلال بإعادة تنظيم المقاومة الكردية المسلحة والقيام بعمليات ضد القوات النظامية العراقية التي كانت معظم قطاعاتها العسكرية متورطة في الحرب الدائرة رحاها مع إيران.

في عام 1982، شعر مام جلال أن ثمة انقلاباً في ميزان القوى العسكري على جبهة الحرب لغير مصلحة القيادة العراقية، ولاحت في الأفق إمكانية حقيقية للاستفادة من الضعف الطارئ على الموقف العسكري العراقي، فبدأ مفاوضات مع السلطة المركزية في بغداد دامت حتى عام 1984، ولكنها أدت عملياً إلى إضعاف نفوذ طالباني من دون نتائج مأمولة، ذلك أن النظام في بغداد، على الرغم من خوضه غمار الحرب مع إيران، لم يكن مستعداً للقبول بالتنازلات، لا سيما أن وضعه العسكري على الجبهة كان في تحسن مستمر خلال مفاوضاته مع طالباني، مما زاده تصلباً، وانقطعت المفاوضات بين الطرفين. وهكذا عاد طالباني إلى قواعده مرة أخرى خالي الوفاض، ليشهد عملية «الأنفال» في صيف وخريف 1988، التي أسفرت عن محو المئات من القرى الكردية وسكانها من الوجود، واختفاء ما لا يقل عن 180 ألف كردي. وبعد هزيمة النظام العراقي في عام 1991 أمام قوات التحالف الدولي وإقامة «المنطقة الآمنة» للأكراد في الشمال، برز جلال طالباني أحد قطبي الحركة الكردية المعاصرة. وبالفعل، فقد منح هذا الوضع القيادة الكردية فرصة التقاط الأنفاس والسعي الحثيث إلى إقامة نوع من المؤسسات التمثيلية في هذه المنطقة، فانتخب طالباني، أحد قطبي الزعامة الكردية، في أول انتخابات تشريعية جرت في مايو (أيار) 1992 باعتباره ممثلاً شرعياً للمطامح الكردية في ترسيخ مؤسسات الحكم الذاتي في كردسـتان العراق بعيداً عن تدخل السلطة المركزية في بغداد. بيد أن الأحداث التي أعقبت هذا التاريخ كانت كئيبة بالنسبة لطالباني إلى حد بعيد. ففي عام 1994 انفجر صراع مسلح مرير مع الفصيل الرئيسي الآخر (الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني)، أسفر عن سقوط أكثر من ثلاثة آلاف قتيل. وفي ظل استمرار النزاع المسلح، لم تتلكأ إدارة الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون عن القيام بعدد من الخطوات لإطفاء هذا النزاع، فتوصل الطرفان الكرديان في عام 1998 إلى اتفاق في واشنطن يقضي بوقف إطلاق النار، كما قسّمت المنطقة الكردية بموجبه إلى قسمين، أحدهما تديره حكومة بارزاني ومقرها أربيل، والثاني تديره حكومة طالباني ومقرها السليمانية. وفي مطلع عام 2000، اتفق الطرفان على تطبيع العلاقات وتفعيل البرلمان الكردي، الذي أصابه الشلل لمدة تزيد عن ست سنوات، استعداداً لمرحلة جديدة في تاريخ العراق. ومهما يكن من أمر، فإن مام جلال كان وما يزال مصاباً بحجمه، يجتذب الأضواء أينما حل ويفتقده الجميع حين يغيب، وبالتالي لن تكن مهمته في إعادة إطلاق أحلام بناء وطن هو في طور التكوين سهلة