*يقول المستشرق جاك بيرك :

..... الحاج زاير وهو أكبر شاعر شعبي في العراق وقصائده تدوي على كل الشفاه منذ جيل في بيئة تلهبها محبة أهل البيت !! حدث بعد وفاته أن ظهر في الحلم وحين سألوه كان مختبئا وراء صمته لكي يحافظ على السر !! وكان التوافق بين إيمانه الجماعي ومغامرات حياته الخاصة مع دوي اشعاره يعكس اندماج المكان والزمان !! وكان إلهام الشاعر الحاج زاير يهبط عليه في اي مكان حتى لو كان بين اخوانه وبالطبع كان يرتجل المقاطع الصوفية في حب اهل البيت بالدفق الذي يوجه فيه النداءات الأنيقة الى فتاة عابرة !! إ . هـ ( 1 )

* ويقول الأستاذ حسن الأسدي :............ هو أشـعر شعـراء الحسكة على الإطلاق وشعره صورة ناطقة لحوادث عصره وتقاليد مجتمعه وسيـرة مواطنيه ! والجيل الذي عاصره والجيل الذي تلاه يردد بإعجاب وفخر أشعاره التي يجد فيها كل شخص ما يوافق طبعه ويلائم غرضه وهذه هي ميزة الخلود التي تمتع بها سلفه المتنبي إ.هـ .

* أما كبير مؤرخي العراق السيد عبد الرزاق الحسني فيقول :

الحاج زايرأسرع شعراء عصره بديهة ! وينشد القصيدة التي تبلغ المئة بيت ارتجالا وفي آن واحد فيخال السامع أنه كان يحفظها منذ مدة دون إعمال فكره ! وله اليد الطولى في الموال والأبوذية والمربع والميمر إ.هـ .

*اما صديقي الشاعر الكبير الأستاذ شاكر السماوي فقد اهدى أنفس دواوينه – إحجاية جرح – مطلع ستينات القرن العشرين الى الشاعر الحاج زاير !! وكان السماوي معجبا أيما اعجاب باعتداد الحاج زاير بنفسه في قوله : والناس كَالت مجنون ابعكَلي اقنعت بس آنه ولهذا فقد اهدى الشاعر شاكر السماوي دواينه الشهير – احجاية جرح – الى الحاج زاير !!. ويرى الأستاذ شاكر السماوي أن الحاج زاير مثابة امام الشعر !! و الشعراء ليسوا سوى زوار في صحن زاير إ. هـ .

وقال السيد محمد جمال الهاشمي :

وزاير في الشعر أنشودة غنى بها البادي مع الحاضر

هلهل في قيثاره مطربا أيامه في لحنه الساحر إ . هـ .



ورثاه صديقه وتربه وحافظ شعره السيد علي القصير بن السيد محمد بن السيد عبودي المرعبي الحسيني من قرية السادة آل بو اذبحك قرب مركز الحلة :

إذا امعنت في لوح المصاير وجدت الخلق للمجهول ساير

وآية قولنا علم فِطَحْلٌ بسبك الشعر يدعى حجي زاير

فقد وهب القصيد مذهَّباتٍ وأبكاراً خوالد في الضماير إ . هـ .

*الحـاج زايـر : إنه الحاج زاير بن عسكورة بن علي بن جبر من قبيلة بني مسلم المنسوبة الى ابي المكارم مسلم بن قريش بن بدران بن مقلد العبادي

ولد هذا النجم الساطع عام 1860 في قصبة برس – بورسيبا - المحاذية لبابل والمقاربة للنجف وهي منطقة عميقة القدم !! وسنة وفاة الحاج زاير 1919 !! وقد أغمض عينيه ولمّا يبلغ الستين !! مصداقاً لقول الشاعر الصيني القديم : ولدوا وعاشوا وتعذبوا وماتوا ( 2 ) .

والشاعر مخلوق موسوم بالرؤيا فهو يرى امورا لا يراها غيره فيحار الناس في امره أهو نبي أم ساحر أم مجنون أم طفل ؟؟ .ويبدو ان الحاج زاير سئم الدنيا وهو في عز نضجه وضاق صدره وهو حبيب الناس وربما تعجل الحاج زاير أجله :



يا بلحسن ضاك صدري والحشه حامي

من جور دهري عليَّ ابسطرته حامي

مامن مجيرن سواكم للدخل حامي

هل يوم كلت يحيدر حرفتي والحيل

والسمع مني ذهب بعد الظهر والحيل

عني توانو جفوني خلِّتي والحيل

وامسيت جتَّان ياحامي الحمة حامي.



............ وما يشبه الأسطورة ان الحاج زاير كتب مرثيته بنفسه معينا

موته في يوم كتابة المرثية ذاته !! ومحددا بالدقة الوقت لصحبته كي يسروا بجنازته ...... ( كَبل طرت الفجر )!!



وحك التين والزيتون والمن

اجروحي الطابن امن اسنين ولمن

السدر والجفن والكافور والمن

كَبل طرت الفجر يسرون بيه (3) .

بما ذكرنا بمالك بن الريب حين رثى نفسه واقترح على اصحابه دفنه :

وخطا بأطراف الأسنة مضجعي وردا على عيني فضل ردائيا

ولا تحشراني بارك الله فيكما من الأرض ذات العرض انة توسعا ليا

خذاني فجراني ببردي اليكما فقد كنت قبل اليوم صعبا قياديا !!

..نعم هو الحاج زايربن الحاج عسكورة بن علي بن جبر من قبيلة بني مسلم نسبة الى ابي المكارم مسلم بن قريش بن بدران بن مقلد العبادي !! وبنو مسلم فخذ من قبيلة طفيل العربية المنتسبة الى طفيل بن عامر القيسي وتقطن بنو مسلم على ضفاف الفرات فرع الهندية ضمن منطقة نبي الله ذي الكفل !! ( 4 ) وقد زار والده مدينة النجف التي كانت وما لبثت قبلة كل قروي طموح !! هذه المرة اصطحب عسكورة معه صغيره ( زاير ) وزاير فيه عبق التيمن بزيارة مرقد علي كرم الله وجهه , فمعنى اسم زاير عند اهل الفرات هو الذي زار العتبات المقدسة او انه موعود بزيارتها !! زاير الصبي الذي يرى النجف اول مرة فيفتح عينيه على وسعهما مندهشا من مدينة تبتكر أفراحها وأتراحها ولا تكل من الاحتفالات ولا تمل !! زاير يرقب المباهج التي تفتقدها قصبة بيرس !! حتى المآتم الحسينية بالنسبة للقروي هي شيء من المباهج !! يرقب المعالم المبنية بالطابوق كما بهرته الشناشيل والأزقة المفرطة في الضيق وأضواء الثريات المتدلية في الصحن والمساجد والحسينيات والسوق الكبير !! واصوات الباعة في سوق الخضار تلك التي تحاكي الغناء ! وحركة النساء في الأسواق او الأزقة او العتبات بعباءآتهن السود ( العراقيات ) والملونة ( غير العراقيات )!! تعلق الصبي زاير بالنجف المدينة العبقة بالعلم والشعر والجهاد وهو يصطنع مقارنة بينها وبين قرية برس التي تنام مبكرة وتصحو متأخرة !! بيرس او بورسيبا القصبة الزراعية الآيلة الأطلال وقد عانت زقورتها وقصورها وكنوزها من جهل الريفيين وجشع تجار الآثار الذين كانوا ينبشون القبور والتلال والقصور للعثور على قطع النقود والأواني والحلى الذهبية والفضية والنحاسية أما آجرها فيبنون منه البيوت وزرائب الحيوان ! ناسين انها كانت موضع اقامة مردوك الذي انتصر على تياما في ملحمة التكوين وكان طعامة يأتيه ساخنا لأن الناس تصطف خطا من بابل الى بورسيبا وكل سابق يسلم اللاحق طعام مردوك فيصل بهذا البريد البشري بوقت قياسي !! فضلا عن ان الناس يتحدثون عن ملك اسطوري تمرد على الله ورمى السماء بالمنجنيق من زقورته فصعق وغارت قصوره تحت الأرض والناس تدعوه النمرود !!! في هذه القرية المنسية اطلق الحاج زاير صرخته الأولى وابصر النور لأول وهلة ذات شتاء من عام 1860 ويبدو ان مخايل موهبة قول الشعر بدأت مبكرة في حياته فقد كان وهو طفل يأخذ ألألحان القروية ويؤلف عليها كلمات من عنده فيجن جنون السامعين لهذا الطفل المعجزة !يعطونه لحنا ليمتحنوه فيصوغ كلمات من عنده وعلى البديهة !! وقد صقلت النجف مواهبه وعمقت إحساسه بأهمية موهبته !! يقول جاك بيرك : (.... وكان التوافق المؤثر بين الأيمان الجماعي ومغامرة حياته الخاصة ودوي اشعاره يحقق له حتى النهاية اندماجا يدل على المكان والزمان !وكان الهام الشاعر يهبط على الحاج زاير وهو بين اخوانه ! وفي احدى الجلسات البكائية التي يتفجعون بها على المصائب التي توالت على علي بن ابي طالب وأولاده قام زاير وارتجل شعرا مؤثرا ثم القى مقاطع صوفية ......... وها هو الحاج زاير وقد اضحى جنديا في نهاية العهد العثماني !! فأرسل الى حامية قطر ! وهناك كان ينفس عن حزنه بتنهدات بلغ من تناسقها وعمقها ان جعلت رفاقه المجندين يتحلقون حوله مما حمل القيادة على الإشفاق عليه وصرفه الى منزله ..... وها هو يعود الى السفر عام 1914 وكانت العودة مناسبة لنظم الأغاني حول مواضيع بطولية !! ولسوء الحظ يهاجم الأنكليز البصرة فيتقدم العلماء الصفوف على راس معركة الدفاع ضد اعداء الدين ويضطر الحاج زاير بعد استنكاره لإنسحاب العثمانيين ... يضطر الى الإختباء في الكوفة ثم يعود للظهور في بغداد ! ويراه الناس في جامع الحيدر خانة حيث يدعوه احد السادة الى الحرب المقدسة وكان ذلك كافيا لإثارة قريحة الشعر عند الحاج زاير ! فهو يتهيج من هياج الناس فيرتجل مرة اخرى عواطفه النبيلة في شعر مؤثر ..... ولكن صورة الحاج زاير لا تقتصر على الملامح المثالية فقط فهو اسير رغبات ذات خصوصية !!! فعند عودته من حامية قطر الى بلده وهو يعيش في وئام مع الفتى اليافع الوسيم واسمه هادي !! وقد مات هذا الحبيب غيلة فحامت الشكوك حول الحاج زاير ووجهت اليه تهمة قتل حبيبه الفتي هادي !! وكانت هذه المفارقة الماساوية مناسبة لوضع اشعار جميلة تقارنه بالشاعر ديك الجن الحمصي فهو الآخر متهم بجريمة قتل مزدوجة ارتكبها بحق صديقه وحبيبته عندما فاجأهما يخونانه فقتلهما واحرقهما وصنع من رمادهما كأسين يشرب منهما بالتناوب مغنيا عواطغه ...... إ . هـ ) ( 5 ) .
أيمكن اعتداد العناية بالشعر الشعبي العراقي ضربا من الإساءة للغة العربية الفصحى الأم ؟ وقبل الإجابة سوف نقصي عن منهجنا خطين متشددين لا يمتان الى العلم والحضارة بأية وشيجة !! الأول قومي يرى ان الشعر الشعبي فعل شعوبي غايته هدم كيان القومية العربية والآخر قطري محلي ضيق يستميت في جعل الشعر اللهجوي بديلا من الفصحى !! والرأيان هشان لا يستحقان حتى الدحض !! ان محاولتي هذه تكرس ان العلم مجرد قناعة تمتلك ادلة بينة تثبت الفرضيات ! والنص الشعري الشعبي خضع لمعامل العلم ! فإذا درسناه فإنما ندرس حضارة مجتمع في زمكان محدود خدمة للمؤرخين من الأدباء واللغويين والنحاة والإنتروبولوجيين ! نحن نقيد ذوقاً جمعيا في منهج عصي على المؤرخ التقليدي الذي يجهل اللهجات المحلية !! كيف مثلا يكتب مؤرخ ثورات الفرات الأوسط سنوات 1914 – 1915 – 1918 – 1920 إذا كان يجهل الدارمي والأبوذية والزهيري والميمر ونصف المعلومات وأجلها في ثنايا شعر الحسكة ؟! ثم من قال ان الفصحى التي بين أيدينا هي لغة العرب الوحيدة ؟ من قال ذلك فقد ألغى ازيد من عشرين لغة عربية احتج بها النحاة ورضيها قراء القرآن المعتمدون !! ولا نريد ان نعيد الى الأذهان كيف كان النبي الأمين - صلعم - يكلم كل ذي ( لغة ) بلغته وحين سأله في ذلك على بن ابي طالب كرم الله وجهه قال له النبي صلعم ( أدبني ربي فأحسن تأديبي ) !! واللغة عند العلماء هي اللهجة او اللسان !! ولا نريد ان ننسى قالة ابي عمرو بن العلاء( زبان بن سيار ت 154 هـ ) التي قال فيها ما لسان حمير بلساننا ولا عربيتهم بعربيتنا !!
( وقد عملت الأسواق الجاهلية على تنقية لغات العرب وانتخاب لغة وسطى وفك ارتباط لغات العرب بعدد من العيوب اللهجية التي اثلتها رطانات القبائل قال الفراء الكوفي ت 207 هـ ك كانت العرب تحضر الأسواق في مواسمها كل عام وقريش يسمعون لغات العرب فما استحسنوه من لغاتهم تكلموا به فصاروا افصح العرب وخلت لغتهم من مستبشع اللغات ومستقبح الألفاظ من ذلك الكشكشة وهي في ربيعة ومضر يجعلون بعد كاف الخطاب في المؤنث شينا فيقولون رأيتكش وبكش وعليكش ! فمنهم من يثبتها حالة الوقف فقط وهو الأشهر ومنهم من يثبتها في الوصل ايضا ومنهم من يجعلها مكان الكاف ويكسرها في الوصل ويسكنها في الوقف فيقول منش وعليش !! ومن ذلك الكسكسة يجعلون بعد الكاف او مكانها في المذكر سينا على ما تقدم ! ومن ذلك العنعنة تجعل الهمزة المبدوء بها عينا فيقولون في إنك عنك وفي اذن عذن ! ومن ذلك الفحفحة يجعلون الحاء عينا ! والوكم يقولون عليكِم بكسر الكاف ! والوهم يقولون منهِم بكسر الهاء والعجعجة يجعلون الياء المشددة جيما يقولون في تميمي تميمج وعلي علج والإستنطاء تجعل العين الساكنة نونا اذا جاورت الطاء كأنطى في اعطى ! ومن ذلك الوتم تجعل السين تاء كالنات في الناس والعروت في العروس ! ومن ذلك الشنشنة ان تجعل الكاف شينا مطلقا كلبيش اللهم لبيش اي لبيك اللهم لبيك ) ( 6 ) .