بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أحسن خلق الإنسان وفطره على صبغة الإيمان وعلمه المعارف والبيان وأنعم عليه بالتفضل والإحسان وأرشده إلى اقتناء الفضائل والفواضل وحذره وأنذره عن ارتكاب الرذائل وفرض تحسين الأخلاق إلى اجتهاد العبد فيها وتشهيره واستحثه على تهذيبها من الرذائل بتخوفه وتحذيره وسهل عليه تحسينها بتوفيقه وتيسير ما أمتن عليه بتسهيل الصعب منها وعسيرها والصلاة على النبي الكريم المنعوت في الفرقان الحكيم بأنك لعلى خلق عظيم وآله القربى الذي حث الله على حبهم وأهل الذكر الذين أمر الله بمسئلتهم وأولي الأمر الذين أمر الله بطاعتهم : والامتثال بأخلاق أهل البيت عليهم السلام

وبعد :

فإن علم الأخلاق هو : العلم الباعث في محاسن الأخلاق ومساوئها , والحث على التحلي بالأولى والتخلي عن الثانية 0

ويحتل هذا العلم مكانة مرموقة , ومحلا رفيعا بين العلوم , لشرف موضوعه , وسمو غايته 0 فهو نظامها , وواسطة عقدها , ورمز فضائلها , ومظهر جمالها , إذ العلوم بأسرها منوطة بالخلق الكريم , تزدان بجماله , وتحلو بآدابه , فإن خلت منه غدت هزيلة شوهاء , تثير السخط والتقزز 0

ولابدع فالأخلاق الفاضلة هي التي تحقق في الإنسان معاني الإنسانية الرفيعة , وتحيطه بهالة وضاءة من الجمال والكمال , وشرف النفس والضمير , وسمو العزة والكرامة , كما تمسخه الأخلاق الذميمة , وتحطه إلى سوي الهمج والوحوش 0

وليس أثر الأخلاق مقصورا على الأفراد فحسب بل يسري إلى الأمم والشعوب , حيث تعكس الأخلاق حياتها وخصائصها ومبلغ رقيها , أو تخلفها في مضمار الأمم 0

وقد زخر التاريخ بأحداث وعبر دلت على أن فساد الأخلاق وتفسخها كان معولا هداما في تقويض صروح الحضارات , وانهيار كثير من الدول والممالك :

وإذا أصيب القوم في أخلاقهم 000 فأقم عليهم مأتما وعويلا

وناهيك في عظمة الأخلاق , أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أولاها عناية كبرى , وجعلها الهدف والغاية من بعثته ورسالته , فقال :

( بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) 0

ومما يحز في النفس , ويبعث على الأسى والأسف البالغين , أن المسلمين بعد أن كانوا قادة الأمم , وروادها إلى الفضائل , ومكارم الأخلاق , قد خسروا مثاليتهم لانحرافهم عن آداب الإسلام, وأخلاقه الفذة , ماجعلهم في حالة مزرية من التخلف والتسيب الخلقيين 0 لذلك كان لزاما عليهم _ إذا ما ابتغوا العزة والكرامة وطيب السمعة _ أن يستعيدوا ما أغفلوه من تراثهم الأخلاقي الضخم , وينتفعوا برصيده المذخور , ليكسبوا ثقة الناس وإعجابهم من جديد , وليكونوا كما أراد الله تعالى لهم :

[ خير أمة أخرجت للناس ] 0


وتلك أمنية غالية , لاتنال إلا بتظافر جهود المخلصين من أعلام الأمة الإسلامية وموجهيها , على توعية المسلمين , وحثهم على التمسك بالأخلاق الإسلامية , ونشر مفاهيمها البناءة والاهتمام بعرضها عرضا شيقا جذابا , يغري الناس بدراستها والإفادة منها 0


الجدير بالذكر : أن المقياس الخلقي في تقييم الفضائل الخلقية , وتحديد واقعها هو : التوسط والإعتدال , المبرأ من الإفراط والتفريط 0 فالخلق الرضي هو ماكان وسطا بين المغالاة والإهمال , كنقطة الدائرة من محيطها , فإذا انحرف عن الوسط إلى طرف الإفراط أو التفريط غدى خلقا ذميما 0

فالعفة فضيلة بين رذيلتي الشر والجمود : فإن أفرط الإنسان فيها كان جامدا خاملا , معرضا عن ضرورات الحياة ولذائذها المشروعة , وإن فرط فيها وقصر , كان شرها جشعا , منهمكا في الذائذ والشهوات 0
والشجاعة فضيلة بين رذيلتي التهور والجبن : فإن أفرط الشجاع فيها كان متهورا مجازفا فيما يحسن الإحجام عنه , وإن فرط وقصر كان جبانا هيابا محجما عما يحسن الإقدام عليه 0

والسخاء فضيلة بين رذيلتي التبذير والبخل : فإن أفرط فيها كان مسرفا مبذرا سخيا على من لايستحق البذل والسخاء , وإن فرط فيها وقصر كان شحيحا بخيلا فيما يجدر الجود والسخاء فيه 000 وهكذا دواليك 0

من أجل ذلك كان كسب الفضائل , والتحلي بها , والثبات عليها , من الأهداف السامية التي يتبارى فيها , ويتنافس عليها , ذوو النفوس الكبيرة , والهمم العالية , ولاينالها إلا ذو حظ عظيم 0

ولم أر أمثال الرجال تفاوتا 000 لدى المجد حتى عد ألف بواحد



والآن سنتطرق إلى تعريف حسن الخلق وهو :
حالة نفسية تبعث على حسن معاشرة الناس , ومجاملتهم بالبشاشة , وطيب القول , ولطف المدارة , كما عرفه الإمام الصادق عليه السلام حينما سئل عن حده فقال : ( تلين جناحك , وتطيب كلامك , وتلقى أخاك ببشر حسن ) .
من الأماني و الآمال التي يطمح إليها كل عاقل حصيف , ويسعى جاهدا في كسبها و تحقيقها , أن يكون ذا شخصية جذابة , و مكانة مرموقة , محببا لدى الناس , عزيزا عليهم .
و إنها لأمنية غالية , وهدف سامي , لا يناله الا ذوو الفضائل والخصائص التي تؤهلهم كفاءاتهم لبلوغها , ونيل أهدافها , كالعلم والأريحية و الشجاعة و نحوها من الخلال الكريمة .
بيد أن جميع تلك القيم و الفضائل , لا تكون مدعاة للإعجاب والإكبار , و سمو المنزلة , و رفعة الشأن , إلا إذا اقترنت بحسن الخلق , و ازدانت بجماله الزاهر , و نوره الوضاء . فإذا ماتجردت منه فقدت قيمها الأصلية , و غدت صورا شوهاء تثير السأم والتذمر 0

لذلك كان حسن الخلق ملاك الفضائل ونظام عقدها ومحور فلكها , وأكثرها إعدادا وتأهيلا لكسب المحامد والأمجاد , ونيل المحبة والاعزاز 0

انظر كيف يمجد أهل البيت عليهم السلام هذا الخلق الكريم , ويطرون المتحلين به اطراء رائعا , ويحثون على التمسك به بمختلف الأساليب التوجيهية المشوقة , كما تصوره النصوص التاليه :


قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( أفاضلكم أحسنكم أخلاقا , المواطئون أكنافا , الذين يألفون ويؤلفون وتوطأ رحالهم )
والأكناف : جمع كنف , وهو : الناحية والجانب , ويقال " رجل موطأ الأكناف " أي كريم مضياف 0


وقال الباقر عليه السلام : ( إن أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا ) 0


وقال الصادق عليه السلام : ( مايقدم المؤمن على الله تعالى بعمل بعد الفرائض , أحب إلى الله تعالى من أن يسع الناس بخلقه ) 0


وقال عليه السلام : ( إن الله تعالى ليعطي العبد من الثواب على حسن الخلق , كما يعطي المجاهد في سبيل الله , يغدو عليه ويروح ) 0

وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( إن صاحب الخلق الحسن له مثل أجر الصائم القائم ) 0


وقال الصادق عليه السلام : ( إن الخلق الحسن يميث الخطيئة , كما ثميث الشمس الجليد ) 0


وقال عليه السلام : ( البر وحسن الخلق يعمران الديار , ويزيدان في الأعمار ) 0


وقال عليه السلام : ( إن شئت أن تكرم فلن , وإن شئت أن تهان فاخشن ) 0


وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( إنكم لم تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم ) 0



وكفى بحسن الخلق شرفا وفضلا , أن الله عز وجل لم يبعث رسله وأنبياءه إلى الناس إلا بعد أن حلاهم بهذه السجية الكريمة , وزانهم بها , فهي رمز فضائلهم , وعنوان شخصياتهم 0

ولقد كان سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم المثل الأعلى في حسن الخلق , وغيره من كرائم الفضائل والخلال , واستطاع بأخلاقه المثالية أن يملك القلوب والعقول , واستحق بذلك ثناء الله تعالى عليه بقوله عز من قائل : [ وإنك لعلى خلق عظيم ] 0

قال أمير المؤمنين عليه السلام وهو يصور أخلاق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( كان أجود الناس كفا , وأجرأ الناس صدرا , وأصدق الناس لهجة , وأوفاهم ذمة , وألينهم عريكة , وأكرمهم عشرة 0 من رآه بديهة هابه 0 ومن خالطه فعرفه أحبه , لم أر مثله قبله ولا بعده ) 0

وهكذا كان الأئمة المعصومون من أهل البيت عليهم السلام في مكارم أخلاقهم وسمو آدابهم 0 وقد حمل الرواة إلينا صورا رائعة ودروسا خالدة من سيرتهم المثالية وأخلاقهم الفذة منها :

* ورد أن الحسن والحسين مرا على شيخ يتوضأ ولايحسن , فاخذا في التنازع , يقول كل واحد منهما أنت لاتحسن الوضوء , فقالا : أيها الشيخ كن حكما بيننا , يتوضأ كل واحد منا , فتوضئا ثم قالا : أينا يحسن ؟ قال : كلاكما تحسنان الوضوء , ولكن هذا الشيخ الجاهل هو الذي لم يكن يحسن , وقد تعلم الآن منكما , وتاب على يديكما ببركتكما وشفقتكما على أمة جدكما 0

* وجنى غلام للحسين عليه السلام جناية توجب العقاب عليه , فأمر به أن يضرب , فقال : يا مولاي والكاظمين الغيظ 0 قال : خلوا عنه 0 فقال : يا مولاي والعافين عن الناس 0 قال : قد عفوت عنك 0قال : يا مولاي والله يحب المحسنين 0 قال : أنت حر لوجه الله , ولك ضعف ماكنت أعطيك 0


سلام الله عليهم أجمعين


وصلى الله على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين