سنبدأ على بركة الله تعالى في هذا البحث المختصر بطرح نظرية الاطوار الخلقية التي تبين المراحل والاطوار التي تجري على الانسان ، والحقيقة ان هذه النظرية هي تصحيح لنظرية التطور التي طرحها (دارون ) ، والتي اشتبه فيها بقوله : ( ان اصل الانسان هون قرد ) ، والواقع ان نظرية التطور هي صحيحة ولكن ليس مثلما طرحها دارون ، وفي نظريتنا هذه يمكننا تقسيم الاطوار الخلقية الى اربعة اقسام:-
اولاً : الطور الجمادي :
وهو أول طور يمر به الخلق الانساني في مراحل تكوينه الاولية المتأتية أصلاً من التراب ، وقد أثبتنا في العدد السابق من موضوع ( عملية الانبات المتواصلة في الخلق البشري ) ان عملية تخصيب النطفة مع البويضة لا تتم الا بعد اشتراك ذرة التراب معها ، والكلام هنا عن استمرارية نشوء الخلق المتواصلة بعد آدم (ع) ،وبالتالي فأن أصل خلق الانسان هو من التراب والتراب من الجماد كما هو معلوم ، قال تعالى { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ }الروم20.
ثانياً : الطور النباتي :-
تبدأ مرحلة الطور النباتي بعد نجاح عملية التخصيب المتكونة من الحيمن الذكري والبويضة وذرة التراب ( راجع موضوع عملية الانبات المتواصلة في الخلق البشري ) ، فالحالة النباتية لا تتم الا بوجود التراب ، وهناك ترابط بين عملية التخصيب والارض الخصبة التي ينبت فيها النبات ، فعند تمام هذه العلمية ( عملية التخصيب ) تنبت بذرة الجنين في الرحم ، قال تعالى { وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً }نوح17.
ثالثاً : الطور الحيواني :-
ان ولادة الخلية في الجنين هو بداية الحياة فيه ، فأن الخلية تعتبر مصنعاً كيميائياً صغيراً يعمل بدقة متناهية ، حيث يحتوي على مركز تحكم يخبرها بما ينبغي ان تفعل ، ومتى تفعل ذلك ، وهي تحتوي ايضاً على محطات قدرة تقوم بتوليد الطاقة التي يحتاجها الجنين .
رابعاً : الطور الانساني :-
بعد اكتمال مدة أربعة اشهر وعشرة أيام يكون ولوج الروح الجسد ، فقوله تعالى {مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} الحج 5 ، أي ان الاولى تامة الخلقة والثانية لم تصل الى طور الخلقة الانسانية بإنبعاث الروح في الجسد ، وعندما يصل الانسان الى مرحلة الطور الانساني وهي مرحلة الاكتمال الخلقي فعند ذلك يطلق عليه قول إنسان فعلياً .
وان هذه النظرية سوف تثبت لنا تحققها حتى بعد الوالادة ، لأن اعضاء الجسم كلها في تطور مستمر ، وهذا الامر نعيشه يومياً في كافة خلايانا المختلفة بل ان العلم الحديث أثبت في آخر اكتشافاته بأن عملية التغيير والتطور تتم في كل لحظة وبكميات هائلة ، فقد توصل العلماء الى ان جسم الانسان يفقد نحو ثلاثة بلايين خلية في كل دقيقة ، وفي نفس الدقيقة التي تموت فيها هذه الخلايا تتولد نحو ثلاثة بلايين خلية جديدة عبر عملية الانقسام الخلوي ، عوضاً عن الخلايا الميتة بواسطة خلايا الاعضاء الداخلية الى خارج الجسم مع الفضلات .
وأثبت العلم المعاصر ايضاً ان عملية التطور المستمرة هذه يتفاوت المدى الزمني فيما بينها فكل خلية من خلايا الجسم تختلف عن الاخرى في دورة حياتها واندثارها ونشوء البديل الذي يحل محلها بإختلاف وظيفتها التي تؤديها ، فخلايا الدم البيضاء ( كريات الدم البيضاء ) مثلاً تعيش لمدة (13)يوماً بينما تعيش خلايا الدم الحمراء لمدة (120) يوماً ، وأن خلايا الكبد تعيش حوالي (18) شهراً ، والخلايا العصبية فإنها تعيش( 100) سنة . هذا التطور يحصل في الاعضاء والخلايا التي غير واضحة للعيان ، أما التي هي واضحة للعيان وهي ضمن الملموس كمراحل ولادة وتطور واندثار الشعر والاظافر فلا حاجة لشرحها لكونها بينة للجميع .
ويمكننا الجزم بأن كل شيء في جسم الانسان هو في تطور ويكون خاضعاً لنظرية الاطوار الخلقية بشكل أو بآخر ، فجسم الانسان كله في تطور ، وكمال الانسان في تطور ، وروحه في تطور ، ونفسه في تطور ، وعقله في تطور ، فلو أخذنا العقل مثلاً لوجدناه يمر في نفس الاطوار الاربعة التي ذكرناها سلفاً ، فعقل الانسان في البداية يمر بمرحلة الطور الجمادي والطفل في أول نشأته ليس لديه عقل ليميز بين المفيد والمضر بدليل ان الحيوان لا يدخل في النار ، لأن لديه نسبة من العقل الذي يفتقر اليها الطفل في هذه المرحلة ، لانه في مرحلة العقل الجمادي يدخل في النار لعجز عقله عن التتمييز ، ثم يمر العقل في مرحلة الطور النباتي عندما يبدأ بالحبو والمشي شيئاً فشيئاً والذي يستطيع من خلال ذلك اكتشاف الاشياء المحيطة به ومعرفة تأثيرها سلباً وإيجاباً وبشكل تدريجي ، وتستمر هذه المرحلة حتى بلوغ سن التكليف الذي يبدأ فيه مرحلة الطور الانساني ، وتستمر عقليته بالتنمي والرجحان لحين بلوغه سن الاربعين الذي يصل فيه الى مرحلة الطور الانساني وهي شدة العقل بدليل قوله تعالى {َ حتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ }الأحقاف15 ، وقوله تعالى { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ }القصص14.
اذن فعملية التطور والكمال متواصلة في الجسم ولولاها لم يتبدل شيء مما ذكرنا أبداً ، ومن خلال هذه النظرية ايضاً سوف نجد حالات نباتية في جسم الانسان كالشعر مثلاً ، وحالات جمادية كالعظم وغيره ، وايضاً حالات حيوانية وانسانية ، وهي تختلف بالطبع من شخص الى آخر فتتدخل الطباع والاحاسيس بشكل مباشر في بعض الحالات ، فتظغى الحالة الحيوانية مثلاً فيصبح الشخص مفترساً او هائجاً كالحيوان في بعض الاحيان ، أو تطغى عاطفته فيحنوا على من يكونون حوله ،وهي الحالة الانسانية ، وكذلك يمكننا الربط بين اعضاء الجسم والنباتات التي حوله وذلك من خلال نظرية المشابهة بين الداء والدواء ، والتي طرحناها بأسهاب في ( العدد العاشر ، ص8 ) من صحيفتنا ، فيمكنك المراجعة والاستفادة أخي القارئ الكريم .
ومرحلة التطور هذه لها وجود في الخارج وهي متواصلة من بين اطوارها المختلفة كي تتواصل مع بعضها البعض ؛ فجعلها الله تعالى مرتبطة فيما بينها لآجل ان تكون المملكة متصلة فكانت نقطة الترابط بين الجماد والنبات هي المرجان فالمرجان هو جماد كما هو معروف لكن هذا الجماد المتكون من الكتل الضخمة التي تحوي الشعاب المرجانية ما هي الا كتل كلسية صماء من الصخور فيعيش داخل هذا الهيكل الكلسي المرجان المتكون من طحلب وحيدالخلية وله دور أساسي في افراز الهيكل الكلسي للمرجان .وتحتاج هذه الطحالب الى الضوء لتقوم بعملية التركيب الضوئي مما يحدد العمق الذي ينمو فيه كل نوع من المرجان .وبذلك فهو يتصل بالنبات من خلال عملية التركيب الضوئي ، فهو جماد ولكن حالته نباتية ، وقد جمع بين الجماد والنبات ، وجعل النخلة نقطة الترابط بين النبات والحيوان ، فأن فيها الكثير من الصفات الحيوانية التي لا توجد عند غيرها من الاشجار ، فهي الشجرة الوحيدة التي اذا قطعت رأسها تموت، وقد نقل لي أحد الفلاحين بأن النخلة اذا كبرت وتحولت من فسيلة الى نخلة وحان أول حملها ولم تحمل ثمراً يقوم الفلاح بتخويفها وتهديدها حاملاً ( سكينة التكريب ) عليها وتهديدها بالقطع ، فأنها بعد ذلك تحمل الثمر في العام القادم ،وهي بذلك تشترك مع الحيوان في اسلوب التهديد والتخويف ، وما الى ذلك من الامور الاخرى التي تبين بأن النخلة تعيش حالة حيوانية مع انها نبات .
وجعل القرد نقطة الترابط بين الحيوان والانسان ، فالمعلوم ان القرد له حركات وافعال مشابهه تماماً لأفعال وحركات الانسان حيث لا يستطيع اي حيوان آخر غير القرد القيام بها ، وبذلك فأن القرد يعيش حالة انسانية مع كونه حيوان .
وكل هذه الامثلة هي دلالة واضحة على وجود مراحل التطو ونظرية الاطوار في كافة المخلوقات ، ونظرية التطور موجودة في القرآن ، والله سبحانه وتعالى هو خالق كل شيء ومتحكم بكل شيء ،وهو جل وعلا يقول { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ }الرحمن29، اي في كل وقت وحين يحدث اموراً ويجدد أحوالاً ، وكذلك يقول { بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ }ق15. أي ان الخلق يتجدد بصورة مستمرة ، والدورات السبعة أيضاً تدل على التطور ، قال تعالى {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ } الحج 5 ، وذلك يدل على الترتيب فكل مرحلة تختلف عن الاخرى ، فعند قوله ( ثم) يعني مرحلة انتقال من حال الى آخر ، اي ان الانسان يتواصل في الانتقال والتطور حتى يصل الى مرحلة التكامل . وتستطيع أخي المؤمن ان تلاحظ انطباقات عديدة لهذه النظرية الشاملة عند جميع الكائنات ، فإن المولى تبارك وتعالى خلق كل شيء فقدره تقديراً ، فتبارك الله أحسن الخالقين . والحمد لله رب العالمين .
الموسوعة القرآنية للسيد القحطاني