بسم الله الرحمن الرحيم ومن خطبة له (عليه السلام)
وفيها ينبِّه أَمير المؤمنين على فضله وعلمه ويبيّن فتنة بني أُميّة

أَمَّا بَعْد، أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنِّي فَقَأْتُ[1] عَيْنَ الْفِتْنَةِ، وَلَمْ يَكُنْ لِيَجْتَرِىءَ عَلَيْهَا أَحَدٌ غَيْرِي بَعْدَ أَنْ مَاجَ غَيْهَبُهَا[2]، وَاشْتَدَّ كَلَبُهَا[3].
فَاسْأَلُوني قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي، فَوَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ تَسْأَلُوني عَنْ شَيْء فِيَما بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ السَّاعَةِ، وَلاَ عَنْ فِئَة تَهْدِي مائةً وَتُضِلُّ مائةً إِلاَّ نَبَّأْتُكُمْ بِنَاعِقِهَا[4] وَقَائِدِهَا وَسَائِقِهَا، وَمنَاخِ[5] رِكَابِهَا، وَمَحَطِّ رِحَالِهَا، وَمَنْ يُقْتَلُ مِنْ أَهْلِهَا قَتْلاً، وَمَنْ يَمُوتُ مِنْهُمْ مَوْتاً.
وَلَوْ قَدْ فَقَدْتُمُونِي وَنَزَلَتْ كَرَائِهُ[6] الاُْمُورِ، وَحَوَازِبُ[7] الْخُطُوبِ، لاََطْرَقَ كَثِيرٌ مِنَ السَّائِلِينَ، وَفَشِلَ كَثِيرٌ مِنَ المَسْؤُولِينَ، وَذلِكَ إِذَا قَلَّصَتْ حَرْبُكُمْ[8]، وَشَمَّرَتْ عَنْ سَاق، وَضَاقَتِ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ ضِيقاً، تَسْتَطِيلُونَ أَيَّامَ الْبَلاَءِ عَلَيْكُمْ، حَتَّى يَفْتَحَ اللهُ لِبَقِيَّةِ الاَْبْرَارِ مِنْكُمْ.
إِنّ الْفِتَنَ إِذَا أَقْبَلَتْ شَبَّهِتْ[9]، وَإِذَا أَدْبَرَتْ نَبَّهَتْ، يُنْكَرْنَ مُقْبِلاَت، وَيُعْرَفْنَ مُدْبِرَات، يَحُمْنَ حَوْمَ الرِّيَاحِ، يُصِبْنَ بَلَداً وَيُخْطِئْنَ بَلَداً.
أَلاَ وَإِنَّ أَخْوَفَ الْفِتَنِ عِنْدِي عَلَيْكُمْ فَتْنَةُ بَنِي اُمَيَّةَ، فإِنَّهَا فِتْنَةٌ عَمْيَاءُ مُظْلِمَةٌ: عَمَّتْ خُطَّتُهَا[10]، وَخَصَّتْ بَلِيَّتُهَا، وَأَصَابَ الْبَلاَءُ مَنْ أَبْصَرَ فِيهَا، وَأَخْطَأَ الْبَلاَءُ مَنْ عَمِيَ عَنْهَا.
وَايْمُ اللهِ لَتَجِدُنَّ بَنِي أُمَيَّةَ لَكُمْ أَرْبَابَ سُوْء بَعْدِي، كَالنَّابِ الضَّرُوسِ[11]: تَعْذِمُ[12] بِفِيهَا، وَتَخْبِطُ بِيَدِهَا، وتَزْبِنُ[13] بِرِجْلِهَا، وَتَمْنَعُ دَرَّهَا[14]، لاَ يَزَالُونَ بِكُمْ حَتَّى لاَ يَتْرُكُوا مَنْكُمْ إِلاَّ نَافِعاً لَهُمْ، أَوْ غَيْرَ ضَائِر بِهِمْ، وَلاَ يَزَالُ بَلاَؤُهُمْ حَتَّى لاَ يَكُونَ انْتِصَارُ أَحَدِكُمْ مِنْهُمْ إِلاَّ مثل انْتِصَارِ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ، وَالصَّاحِبِ مِنْ مُسْتَصْحِبِهِ، تَرِدُ عَلَيْكُمْ فِتْنَتُهُمْ شَوْهَاءَ[15] مَخْشَيَّةً[16]، وَقِطَعاً جَاهِلِيَّةً، لَيْسَ فِيهَا مَنَارُ هُدىً، وَلاَ عَلَمٌ يُرَى[17].
نَحْنُ أَهْلَ الْبِيْتِ مِنْهَا بنجاة، وَلَسْنَا فِيهَا بِدُعَاة، ثُمَّ يُفَرِّجُهَا اللهُ عَنْكُمْ كَتَفْرِيجِ الاَْدِيمِ[18]: بِمَنْ يَسُومُهُمْ خَسْفاً[19]، وَيَسُوقُهُمْ عُنْفاً، وَيَسْقِيهِمْ بِكَأْس مُصَبَّرَة[20]، لاَ يُعْطِيهِمْ إِلاَّ السَّيْفَ، وَلاَ يُحْلِسُهُمْ[21] إِلاَّ الْخَوْفَ، فَعِنْدَ ذلِكَ تَوَدُّ قُرَيْشٌ ـ بِالدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ـ لَوْ يَرَوْنَنِي مَقَاماً وَاحِداً، وَلَوْ قَدْرَ جَزْرِ جَزْور[22]، لاَِقْبَلَ مِنْهُمْ مَا أَطْلُبُ الْيَوْمَ بَعْضَهُ فَلاَ يُعْطُونِيهِ!

[1] فَقَأتها: قَلَعْتُها، تمثيل لتغلّبه عليها.
[2] الغيْهَب: الظلمة. وموجها: شمولها وامتدادها.
[3] الكَلَب ـ محركة ـ: داء معروف يصيب الكلاب، فكل من عضته أُصيب به فَجُنّ ومات إن لم يُبادَر بالدواء.
[4] ناعِقُها: الداعي اليها، من نَعَقَ بغنمه صاح بها لتجتمع.
[5] المُناخ ـ بضم الميم ـ: محلّ البُرُوك.
[6] الكَرَائِهُ: جمع كَرِيهة.
[7] الحَوَازِب: جمع حازِب، وهو: الامر الشديد، حَزَبَهُ الامرُ إذا أصابه واشتدّ عليه.
[8] قلّصت ـ بتشديد اللام ـ: تمادَتْ واستمرت.
[9] شَبّهَتْ: اشتبه فيها الحق بالباطل.
[10] الخُطّة ـ بالضم ـ: الامر. و«عمّت خُطتها»: أي شمل أمرها لانها رئاسة عامة.
[11] النّاب: الناقة المُسِنّة. والضَروس: السيئة الخُلُق تعَضّ حالبها.
[12] تَعْذِمُ: من عَذَمَ الفرسُ: إذا أكل بجفاء أوعَضّ.
[13] تَزْبِنُ: تضرب.
[14] دَرّها: لبنها، والمراد خيرها.
[15] شَوْهاء: قبيحة المنظر.
[16] مَخْشِيّة: مَخُوفة مرعبة.
[17] عَلَم: دليل يهتدى به.
[18] الاديم: الجلد. وتفريجه: سلخه.
[19] يَسومُهم خَسْفاً: يُولِيهم ذلاًّ.
[20] مُصَبّرة: مملوءة إلى أصبارها جمع صبر ـ بالضم والكسر ـ بمعنى الحرف: أي إلى رأسها.
[21] من أحْلَس البعيرَ: إذا ألبسه الحِلْس ـ بكسر الحاء ـ وهو كساء يوضع على ظهره تحت البرْدَعَة، أي لا يكسوهم إلاّ خوفاً.
[22] الجزور: الناقة المجزورة.