الحياة عندما أطلق رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي طروحاته في شأن حكم الغالبية وإنهاء حقبة «التوافقية السياسية»، كان يترجم خبرة ثلاث سنوات في الحكم وجد أنها كبلت بقيود التوافق الإجباري في وسط حكومي مفكك. منتديات الفرات
وفيما تصر الأوساط المحيطة برئيس الوزراء العراقي على إطلاق تعبير «حكومة الوحدة الوطنية» لوصف الحكومة الحالية، كانت نهايات مرحلة الحكم والاستعداد الى جولة انتخابية جديدة تحتم رفع مستوى الشعارات في بيئة انتخابية يصعب توقع نتائجها.
لكن شعار المالكي حول طريقة الحكم تلقفه من زاوية غير متوقعة رجل الدين والقيادي في المجلس الإسلامي الأعلى صدر الدين القبانجي ليطلق بدوره شعار «حق الشيعة كغالبية في حاكمية العراق».
والفرق بين الشعارين ان المالكي كان يحاول إطلاق حملة انتخابية مبكرة ويدرك مسبقاً ان توجهات الشعب العراقي تميل نحو الحكم الرئاسي والسلطة القوية بحكم الاعتياد، في وقت كان القبانجي يطرح نظرية الحكم من زاوية تكريس دور رجل الدين الذي لا يمكن ان يحتفظ بسطوته على السياسة من دون تجذير حكم الطائفة.
بقصد أو من دون قصد التقى الرجلان على فكرة واحدة، تطرح في جوهرها أزمة الحكم في العراق واشكالاته، قسمت بدورها الوسط السياسي العراقي بين داعم لاتجاه الحكم المبني على الغالبية الانتخابية، وآخر متمسك بمبدأ «الديموقراطية التوافقية».
والحقيقة الأولية ان كلا الاتجاهين تحركهما دوافع بعيدة عن جوهر فكرة الحكم وهي بعيدة أيضاً عن تطوير النموذج العراقي الناشئ، بل وينزلقان نحو منح شرعية «ديموقراطية» الى الطروحات المقترحة لشكل حكم ظرفي في منعطف دقيق ومعقد من تاريخ العراق.

من يحكم العراق؟
ظل هذا التساؤل حاضراً قرابة قرن من الزمن وربما يعود في دلالاته التاريخية واشكالاته الفلسفية الى ابعد من هذا التاريخ بكثير.
المكر البريطاني كان حاضراً أيضاً بداية القرن الماضي مع بواكير تأسيس الدولة العراقية الحديثة، عبر الالتفاف على السؤال الجوهري واستيراد حاكم العراق من خارج التشكيلة العراقية المعقدة، وكانت مواصفات الملك فيصل الأول تكاد تكون استثنائية لاعتبارات كثيرة وقف فيها النسب الديني والعشائري فوق الاعتبارات المذهبية والقومية.
لكن الأسرة الحاكمة حتى نهايتها الدامية على يد العسكر لم تستطع الإجابة عن السؤال المعلق. العسكريون بدورهم وهم يفترضون ان شرعية الحكم في العراق ستمنح لهم بالاستناد الى فكرة حصانة العسكر من الانتماءات الحزبية والإيديولوجية وأحقيتهم بحماية الحراكات الحزبية والسياسية والاجتماعية على غرار النموذج التركي حينا أو النموذج الناصري حيناً آخر، فشلوا أيضاً في تحقيق إجابة شافية وكانت نهاياتهم لا تختلف كثيراً عن نهاية «الشرعية الهاشمية».
وعندما انتقل العسكريون من الانتماء الوطني الى الانتماء القومي كشرعية بديلة أواسط الستينات وجدوا أنفسهم يسقطون سريعاً في حيز التسييس والاستقطاب الحزبي فانقسموا على أساس حزبي وانتهى بهم المطاف الى نهاية مماثلة على يد البعثيين الذين استخدموا المؤسسة العسكرية نفسها لضرب حقبة حكم العسكر وتأسيس «شرعية» جديدة مستندة الى فكرة الانتماء البعثي والحزب القائد.
نهاية مرحلة «الحزب القائد» وبدء حقبة «الرجل القائد» كانت حافلة هي الأخرى بالمتغيرات الدراماتيكية في محاولة اجترار مفهوم «الشرعية» المبني حيناً على سطوة العشيرة وحيناً آخر عبر تصدير أزمة أسئلة الحكم في حروب خارجية انتهت تداعياتها باحتلال العراق عام 2003.
الأميركيون لم يملكوا دهاء البريطانيين، فسقطوا في السؤال المنهجي الأول واسقطوا العراق في آتون اختبار إجابات لا يمكن حسمها في ظل اختلال مفاهيم الانتماء والمواطنة ودور الحزب السياسي وموقع الممثليات الدينية للطوائف والقيادات التاريخية للقوميات.

مواجهة متجددة
في خطوة اعتبرت مباغتة شن رئيس الوزراء العراقي في أيار (مايو) هجوماً على مبدأ التوافق السياسي في الحكم وقال إنه يؤيد حكم الأكثرية الانتخابية معتبراً ان مصطلح «الديموقراطية التوافقية» غريب على الديموقراطية ومتناقض معها ويتحمل مسؤولية الفساد.
المالكي لم ينس ان يشير الى شركائه في الحكومة من السنّة والأكراد وأيضاً شريكه الشيعي المجلس الإسلامي الأعلى بالقول «إننا نحتاج الى شركاء في العملية السياسية اكثر شفافية ووضوحاً لأن المسألة لا تتحمل أن يكون شريكاً في العملية السياسية وفي الوقت ذاته خصماً لها، قدم هنا وقدم هناك فهذا تخريب وتدمير للبلد».

في المقابل دافع الرئيس العراقي جلال طالباني عن مبدأ «التوافق السياسي» داعياً الى أهمية تحقيق مصالحة حقيقية بين الكتل السياسية، ومؤكداً «حاجة البلاد الى مبدأ التوافق لكون العراق يمتاز بتعدد الأطياف والأعراق، وان نتائج انتخابات مجالس المحافظات أثبتت الحاجة الى التوافق الوطني بين مكوناته المتنوعة».
والواقع ان النظريتين تمتلكان أسساً موضوعية لكنهما تغفلان أسساً موضوعية أخرى اكثر أهمية.
فالحديث عن حكم الغالبية يشير بلا مواربة الى حكم الطائفة في ضوء غياب مفهوم الحزب الوطني وسيادة مصطلح أحزاب الطوائف.
وحتى تجربة إنتاج أحزاب واتجاهات سياسية لا تستند الى شعارات دينية شاركت في الانتخابات السابقة لم تخرج هي الأخرى عن مفهوم الحزب الوطني داخل الطائفة.
وطرح مفهوم «القائمة الوطنية» من تحالف أحزاب مختلفة طائفياً وعرقياً اكثر مراوغة من سواه، لأن القوائم المقترحة في ضوء عدم تعديل الفلسفة الحزبية التي أنشأت على أساسها معظم الأحزاب المكونة لها لن يكون سوى إعادة صوغ لمفهوم التوافقية الطائفية.
فالعلة اذن في تكوين الحزب السياسي في العراق وليس في مبدأ الحكم، وما عدا أحزاب تمثل الاتجاه الليبرالي والعلماني في العراق فإن الأحزاب الرئيسة تشكلت على ضوء نظرية الممثليات الطائفية والعرقية (سنة وشيعة وأكراد) ما يجعل الحديث عن غالبية حاكمة أشبه بدفع البلد الى الانتحار.
وفي الجهة الأخرى فإن التوافق الإجباري الذي أطر العملية السياسية العراقية حتى اليوم أتاح تطمين الطوائف والعرقيات نسبياً الى دورها السياسي وأشركها جزئياً في منظومة القرار لكنه بصيغته الحالية يجذر المحاصصة ويغذيها ويفقد البلاد أي فرصة للنهوض في ضوء تنازع داخل حكومة ممزقة عملياً، بل والانتقال من مرحلة الصراع السياسي الى الصراع الاجتماعي كنتيجة لا بد ان يتم مصادفتها في حيز نفوذ الممثليات الطائفية والعرقية.
آلية اتخاذ القرار السياسي مكبلة هي الأخرى في ظل التوافق الإجباري، وأنظمة المراقبة البرلمانية ومكافحة الفساد والسيطرة على حركة الاقتصاد والبناء ستكون شبه معطلة.
والفرق بين التوافقية السياسية المطبقة في العملية السياسية العراقية ومبدأ «الديموقراطية التوافقية» المطبق في مجتمعات منقسمة اثنياً ودينياً، يكمن هو الآخر في نظام الحكم، فالتوافق يكون في الأسس المشتركة والأهداف العليا وليس في التفاصيل والحيثيات كما هو اليوم، والأصل ان العراق يشهد خلافات في الأسس وعليها وذلك الخلاف هو ما يجر خلافات حول التفاصيل ويجعل عملية إقالة مدير بلدية فاسد ومرتش من طائفة ما لا يقل تعقيداً عن إقالة وزير من طائفة أخرى.
المخاوف من إعادة إنتاج الديكتاتورية على يد «المالكي» واعادة تنظيم الحزب القائد على يد « حزب الدعوة» هي الأخرى أفكار طرحت في معرض انتقاد طروحات رئيس الحكومة وتلك الطروحات سوف تتصاعد خلال المرحلة المقبلة ومع اقتراب المواجهة الانتخابية الجديدة بداية العام المقبل. ويمكن القول ان أي كتلة سياسية لا تقوى اليوم على تقديم تنازلات لا لمصلحة التوافق السياسي ولا حتى ضده، بل ان مشكلات سيتم تضخيمها خلال الشهور المقبلة لتكون طرفاً في الحملات الانتخابية التي ستحتاج على الدوام الى قضايا مصيرية للخلاف حولها.

من هي الغالبية؟
حديث «القبانجي» عن الغالبية الشيعية وحق الحكم ليس الأول من نوعه بل هو جوهر نقاش اغلب النخب السياسية الحاكمة في العراق التي ستكون مستعدة لابتلاع كل شعارات «الوحدة الوطنية» و «الإيمان بالديموقراطية» حين يكون هنالك خيار الحاكم من خارج الطائفة او خيار المساس بحقوق الطائفة أو القومية.
ولعل حديث القبانجي فتح في شكل لافت بعد ست سنوات من الاضطراب السياسي والضياع في المصطلحات الكبيرة والشعارات الأكبر الباب لمفهوم مبسط مفاده «نؤمن بالديموقراطية وتداول السلطة لكن بشرط...!».
الائتلاف الشيعي الذي يتم اليوم حديث مطول حول إعادة تنظيمه قام في الأصل على مفهوم «حق الشيعة في الحكم»، وتلك حقيقة لا يمكن التهرب منها اليوم بإدانة طروحات القبانجي من قبل بعض مؤسسي الائتلاف باعتبارها تكرس الفرقة الطائفية!.
بالمقابل يكشف رئيس البرلمان العراقي السابق محمود المشهداني عن نظرية أخرى ربما لم يتح لها ان ترى النور حول حق السنة في الحكم.
فيؤكد المشهداني في حديث تلفزيوني مع قناة «البغدادية» ان الحزب الإسلامي طرح على الأكراد إنتاج تحالف سني يجمع العرب والأكراد لتحقيق غالبية سنية تحكم البلاد.
بالطبع يظل الحديث عن غالبية مذهبية نظري وغير مستوف لحسن الحظ بسبب منع الحكومات العراقية المتعاقبة منذ بداية القرن إنتاج إحصاءات تصنف العراقيين على أساس مذهبهم وهذا ما دافع عنه الموظفون الحاليون في الجهاز المركزي للإحصاء في العراقي على رغم اعتراف رئيس الجهاز مهدي العلاق بأنه تعرض الى ضغوط سياسية لإضافة اسم المذهب في حقول الإحصاء المزمع إجراؤه نهاية العام الحالي.
اكثر من ذلك ان سياسيين يعترفون في أحاديث خاصة ان مفهوم الغالبية الحاكمة طرح في مناسبات أخرى بمعرض تصاعد الخلاف بين الحكومة وأكراد العراق ، فكانت هناك طروحات لتحقيق غالبية عربية (سنية – شيعية) تتولى حكم البلاد.
وفي ظل ظاهرة مؤكدة مفادها ان ما يدور في خلد السياسيين مختلف تماماً عما يفكر فيه الشعب العراقي باختلاف طوائفه واثنياته وقومياته ، فإن الحديث عن حكم الغالبية الطائفية لن يكون مستنداً الى أي أساس شعبي اليوم وغداً.
بل ان جوهر مشكلة النخب السياسية اليوم بما فيها كتلة رئيس الوزراء العراقي التي اكتسحت انتخابات المحافظات الأخيرة انها أصبحت عاجزة عن اللحاق بمقتضيات ما يريده الشعب العراقي.
فالتخلي عن عباءة «الطائفية» لصالح عباءة «الوطنية» لم يعد أمراً مرضياً للقاعدة الشعبية التي ستحدد الوزن السياسي للأطراف السياسية العراقية.
واتجاهات الرأي تعكسها مقالات واستطلاعات محلية تطرح بجرأة مطالبات للأحزاب التي احتفظت بنسقها الطائفي التنظيمي والعقيدي والغائي واحتمت بالواجهات الوطنية العامة بإعادة صياغة أولوياتها ما يشمل أسماء الأحزاب وتنظيمها الداخلي ومبادئها وثوابتها الايدلوجية كشرط لانتخابها.
وربما سيكون من المقبول وسط متغيرات جذرية في أسس التنظيمات الحزبية العراقية الحديث عن غالبية سياسية فيما سيكون مقبولا بالشروط نفسها الحديث عن توافق سياسي على الأسس والخطوط العامة للحفاظ على حقوق الاقليات من دون التداخل في تفاصيل واليات الحكم وأيضاً من دون تجذير المحاصصة وتقسيم الأدوار على ممثليات وحكام الطوائف.

http://www.baghdadtimes.net/Arabic/