الفضائيات العراقية في ظل الاحتلال الأمريكي




تمثل المؤسسة الاعلامية بعامة والقنوات الفضائية بخاصة احدى أهم القضايا الساخنة المتعلقة بالشأن العراقي اليوم، وذلك لسببين متلازمين، أولهما هو ان الفضائيات تعتبر من أهم وسائل الاتصال الجماهيري على الإطلاق وخاصة بالنسبة للمنطقة العربية، ودورها المحوري في خلق الرأي العام لاسيما السياسي منه، فضلاً عن دورها التثقيفي والتوعوي والحضاري، وثانيهما هو طبيعة المرحلة الحرجة والدقيقة للغاية التي يمر بها العراق منذ أكثر من خمسة أعوام والمتمثلة بحالة الاحتلال الأمريكي وما خلفه من تداعيات خطيرة شملت مختلف نواحي حياة العراقيين سواء السياسية والاجتماعية والثقافية والحضارية وغيرها، ليس في حاضرهم فحسب بل المساس بخياراتهم المستقبلية. وبالتالي من المتوقع أن تلعب هذه الفضائيات دوراً مركزياً في المجتمع العراقي وفي مختلف النواحي لعلها أكثر من أية مرحلة أخرى.



من هنا تستهدف هذه الورقة إجراء مراجعة شاملة للدور الذي قامت به الفضائيات العراقية منذ بدأ الاحتلال وحتى الوقت الراهن وذلك وفق رؤية نقدية موضوعية وفي إطار مقاربة سياسية، آملين أن تقودنا هذه المحاولة في نهاية المطاف إلى تحديد أولويات العمل الاعلامي العراقي المطلوب لتصحيح مسار هذه المؤسسات وتعزيز دورها في المجتمع العراقي.



1- نظراً لكون المؤسسة الاعلامية بمختلف صورها هي جزء من المجتمع، وبالتالي فإن تقييم أداء هذه المؤسسة وغاياتها لابد أن تنطلق من القاعدة السياسية والاجتماعية التي نشأت وترعرعت فيها.



2- إن معايير تقييم أداء الفضائيات لابد أن ترتكن إلى الحرفية أو المهنية، والحيادية، والمصداقية، والاستقلالية، والوطنية.



3- وبالارتباط مع ما سبق، فإنه من المتوقع أن تساهم الفضائيات العراقية-إلى جانب سائر وسائل الاعلام- بصورة ايجابية وفاعلة في عملية بناء المجتمع وتطويره، وأن تعمل على تغيير الصورة المشوهة للواقع العراقي اليوم وخاصة في الملفين الأمني والسياسي وقضية الوحدة الوطنية إلى صورة أكثر اشراقاً.



إطلالة على التطورات الإيجابية التي شهدتها الفضائيات العراقية



بداية، لابد من الاعتراف بأن الفضائيات العراقية قد شهدت خلال السنوات القليلة الماضية جملة من التطورات الدراماتيكية من الناحيتين الكمية والكيفية:



1- من الناحية الكمية، يلاحظ ثمة تزايد ملموس في أعداد الفضائيات العراقية التي تعمل داخل البلد وخارجه على نحو تجاوز حتى الكثير من دول المنطقة التي سبقت العراق في تأسيس الفضائيات لتعكس الحاجة الدفينة لهذه المؤسسات لأن تنطلق محاولة مجاراة ما بلغته الفضائيات في دول المنطقة والعالم، ولتعكس التغيرات الهائلة التي شهدها العراق في غضون سنوات قليلة، ومن المؤكد أن تختلف هذه الصورة عما كانت عليه الفضائيات العراقية في ظل النظام السياسي السابق، والتي كانت قليلة العدد لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، كما كانت مركزية وموجهة بغير حدود، والهدف الرئيسي منها هو استخدامها لكسب الرأي العام العراقي والعربي لمصلحة برامج وسياسات النظام المذكور وخاصة في إطار مواجهته مع المجتمع الدولي والولايات المتحدة لاسيما في أعقاب حرب الخليج الثانية 1991 والحصار الدولي الظالم الذي فرض على البلد طوال العقد الماضي وحتى سقوط النظام على يد القوات الأمريكية في عام 2003.



2- من الناحية الكيفية، لوحظ أن الفضائيات العراقية الحالية تعمل في أجواء مفتوحة وحرية واسعة للتعبير عن الرأي لاسيما السياسي منه. وهو بالتأكيد تطور دراماتي يحسب لمصلحتها مقارنة بسابق عهدها. يضاف إلى ذلك، شيوع ثقافة “الرأي والرأي الآخر” أو “الاتجاه المعاكس” وكما هي معروفة لدى العديد من فضائيات دول المنطقة والعالم، وهذه تعد حالة صحية في عمل الفضائيات العراقية نظراً لما تؤسسه من ثقافة النقد التي تعد مدخلاً حتمياً للتغيير المطلوب في المجتمع.



3- بقي أن نشير إلى مسعى الفضائيات العراقية لأن تقلد مثيلاتها العاملة في دول المنطقة سواء من حيث طبيعة البرامج المقدمة، أو النواحي الفنية والاخراجية والجمالية وغيرها، ولكننا نحسب أنها - أي الفضائيات العراقية- لم تستطع بعد الوصول حتى إلى الحدود الدنيا لتلك الفضائيات لأسباب عدة، منها حداثة التجربة العراقية في مجال الاعلام المرئي الحر، أو بسبب تواضع الامكانيات سواء المادية أو البشرية الموظفة في هذه الفضائيات رغم ما يتلقاه البعض منها من دعم خارجي ولكنها من المؤكد بحاجة إلى مراحل وأشواط طويلة حتى تصل إلى مرامي الفضائيات الاقليمية والعالمية. ومن الممكن اضافة عامل آخر في هذا المورد وهو تردي الأوضاع السياسية والأمنية وانعكاساتها على أداء هذه الفضائيات.



الفضائيات العراقية تحت المجهر



لعل من المناسب منهجياً أن نشير إلى حقيقة أساسية مفادها أن العراق ككيان سياسي ومركز حضاري قد وقع بكل طبقاته وأطيافه ومقدراته ومؤسساته وقواه الوطنية تحت نير الاحتلال منذ عام 2003 والاحتلال كما هو معروف في الذاكرة الانسانية فضلاً عن العراقية يعني بالضرورة المساس بكرامة وكبرياء الشعوب، واستلاب حريتها وتقرير مصيرها وإنحسار استقلالية اتخاذ القرار الوطني، علاوة على ما ينطوي عليه من نهب لموارد وخيرات الأمة وتعطيلاً لقدراتها وقدرتها على مواكبة الركب الحضاري. ولعل هذه الاسباب كافية أن تجعل كافة شعوب الأرض بمختلف هوياتها تحتفل سنوياً بيوم تحريرها أو استقلالها، ومنها الولايات المتحدة ذاتها والتي تحتفل منذ عام 1775 في الرابع من يوليو/ تموز من كل عام بيوم استقلالها من بريطانيا. وتأسيساً على ذلك، من الطبيعي أن يلقي الاحتلال بظلاله القاتمة على وظيفة الفضائيات وأدائها وأهدافها. ولعل المتابعة التالية تقدم صورة بالغة الدلالة على التداعيات التي تركها الاحتلال الأمريكي للعراق على الفضائيات العراقية.



1- أولاً وقبل كل شيء، لابد من الإشارة إلى أن معظم الفضائيات العراقية اليوم تعود ملكيتها أو تنسب بقدر أو بآخر إلى النخب والتيارات السياسية التي تتصارع على دفة الحكم لاسيما في ظل الفراغ السياسي الذي خلفه الاحتلال منذ الساعات الأولى لسقوط بغداد. والناظر إلى العملية السياسية التي تمخضت في ظل الاحتلال سرعان ما يلمس ذلك الطيف الواسع من التيارات السياسية والتشكيلات الاجتماعية التي تصطف بين طرفي نقيض، يمثل الطرف الأول الحكومة الحالية والتيارات الموالية لها أو تلك التي ترتبط معها بقواسم ومصالح مشتركة، فيما يمثل الطرف الآخر القوى المعارضة لهذه الحكومة وعلى الأرجح المناوئة لقوى الاحتلال، والتي تعمل إما تحت قبة البرلمان أو خارجه. من هنا كان من الطبيعي والحال هذه أن أضحت الفضائيات أبواقاً لهذا الحزب أو ذاك طالما انها تعود له، وتعكس برامجه وشعاراته وأهدافه، وتروج لأجندته السياسية والتي تبدو في الكثير من الأحيان غير واضحة المعالم وتخفي وراءها انتماءات لجماعات وتنظيمات ودول خارج الكيان العراقي. والمهم، فقد أدى ذلك إلى تقاطع مضامين الخطاب الاعلامي-السياسي لهذه الفضائيات بحيث كانت على حساب الحقيقة الكاملة التي ينبغي إيصالها إلى المتلقي العراقي أو العربي أينما كان. ولنعط بعض الأدلة على ذلك. يلاحظ على سبيل المثال، أن الفضائيات العائدة مباشرة إلى الحكومة العراقية أو إلى تيارات أقرب إلى الحكومة أو التي تحابيها بقدر أو بآخر عادة ما تستخدم خطاباً اعلامياً يقلل من هول تداعيات الاحتلال، من قبيل ذكر أعداد أقل من ضحايا الاحتلال أو العنف والإرهاب، مقابل فتح جروح الماضي لتتعقب المقابر الجماعية والاعتقالات والبطش الذي كان يمارسه النظام السابق وخاصة بحق شعبي الجنوب والشمال دون مبالاة بمشاعر عائلات تلك الضحايا أو العمل الجاد لتعويض هؤلاء بحياة آمنة توفر لهم العيش الرغيد. وعادة ما تحاول هذه الفضائيات تسليط الضوء على المشاريع التنموية التي تقوم بها الحكومة هنا وهناك، فضلاً عن انتقاء المصطلحات والتعبيرات التي تقلل من شأن حالة الاحتلال، مثل استخدام عبارة “القوات الدولية متعددة الجنسيات” مقابل “القوات المحتلة”، أو “التحرير” مقابل “الاحتلال”، وغيرها. كما أن هذه الفضائيات عادة ما تتجنب سبر غور الأسباب التي تقف وراء غزو العراق نفسه وتكتفي بالإشارة إلى أن الأمريكان هم أصدقاء للعراقيين وجاءوا لتحريرهم من الدكتاتورية التي لم تخلف غير الحروب والدمار والمقابر الجماعية (رغم أن المسوغ الرسمي للإدارة الأمريكية لغزو العراق هو نزع أسلحة الدمار الشامل التي لم يتم العثور عليها)، ولكن من دون أن تشير صراحة إلى عدد العراقيين الذي قتلوا إما مباشرة من قبل الأمريكان أنفسهم أو من قبل المتطرفين والإرهابيين سواء من تنظيم القاعدة أو غيرهم والذين قدموا للعراق لمواجهة الاحتلال، بدليل انه لم تحتضن الساحة العراقية أمثال هؤلاء من قبل، هذا فضلاً عن التدهور المريع في الأحوال الصحية والاجتماعية والثقافية التي أرجعت العراق إلى العصور الوسطى، في حين استغرقت هذه الفضائيات بنعت واستنكار وبالتالي شحذ الهمم لمحاربة الارهاب من دون أدنى محاولة لمتابعة نشوء الإرهاب وأسباب تواجده في العراق مقارنة بعهد النظام السابق الذي شهد خلاله العراق فترة من الاستقرار الأمني على الأقل وخلو المشهد اليومي من السيارات المفخخة والعبوات الناسفة والجثث مجهولة الهوية في شوارع العراق رغم حكمه الذي لا يختلف عليه اثنان أنه تميز بالقبضة الحديدية والاستبداد والحروب المتعاقبة التي تورط فيها. ومن المتوقع سلفاً وكما حصل بالفعل أن هذه الفضائيات لم تركز على خطاب رئيس الإدارة الأمريكية جورج دبليو بوش في معرض تبريره لغزو العراق والذي كرره لأكثر من مرة قائلاً “إننا في الوقت الذي نقر بوجود صعوبات في العراق لكننا على الأقل استطعنا نقل ساحة المواجهة مع الإرهاب الإسلامي من مدينتي نيويورك وواشنطن اللتين تعرضتا إلى أحداث سبتمبر/أيلول 2001 إلى العراق”، ولا يتسع المقام هنا أن نشير إلى مسوغات الاحتلال والتي ذكرت مراراً في الأعلام الأمريكي قبل العراقي والعربي، والتي هي في الواقع مزيج من المصالح الاستراتيجية والاقتصادية والسياسية الأمريكية و”الاسرائيلية” معاً، من قبيل وضع اليد الأمريكية على الاحتياطي النفطي العالمي الثاني، وزيادة فرض النفوذ الأمريكي على دول المنطقة، وإبعاد العراق من ساحة المواجهة مع “اسرائيل” إلى الأبد، والاحتواء المزدوج لكل من ايران وسوريا، وإعادة رسم خريطة للشرق الأوسط لمصلحتها، وغيرها.



والمثال الآخر الذي يمكن سوقه في هذا الصدد هو تجنب القنوات الفضائية الرسمية من تبيان حقيقة التدخل الإيراني في الشأن السياسي العراقي، ولعل من قبيل المفارقة في هذا السياق أن نستذكر الخطاب الذي ركز عليه النظام العراقي السابق قبل وأثناء حربه مع إيران (1980 -1988)، بأن إيران تمثل بغير حدود الظاهرة الدينية السياسية التي تعمل على استمالة عواطف الطبقات المتخلفة ثقافياً من الشعب العراقي وتؤجج مشاعرهم وسخطهم على بقية المذاهب والأعراق في العراق من أجل قلب نظام البعث الحاكم مقابل منح كامل الولاء للمراجع الدينية في قم والنجف، وكما نلاحظ الآن أن مثل هذا الاعتقاد أخذ يترسخ لدى الكثير من العراقيين حتى من أوساط المذهب الشيعي أنفسهم الذين يعتبرون إيران لاعباً كبيراً في الساحة العراقية مقابل قوات الاحتلال الأمريكي والبريطاني، إلى جانب بعض الميليشيات والمسلحين من داخل العراق وخارجه، وأن الجمهورية الإسلامية أصبحت عاملاً اساسياً في القرار السياسي العراقي وحراكه العسكري بدرجة لا تقل عن القرار الأمريكي وقواته المسلحة العتيدة، حتى بات في حكم اليقين لدى هؤلاء أن ثمة توازن قوى بين إيران والولايات المتحدة في إطار حرب مستعرة بينهما في العراق، وبالطبع أن من يدفع ثمن هذه الحرب هو العراق وأهله. والمهم أن مثل هذه المقاربات وما شابهها لم يتم تناولها كما ينبغي في الفضائيات العراقية الرسمية وكما أسلفنا بيانه.



كما لوحظ خلال العامين الماضيين شدة احتواء الخطاب الإعلامي العراقي الرسمي على نقد لاذع لقادة الدول العربية وخاصة دول الجوار بالنسبة لمواقفهم تجاه العراق، بل لطالما أشارت بأصابع الاتهام إلى أنظمة عربية برمتها في تصدير العنف والإرهاب إلى العراق، أو على الأقل تقديم الدعم لمرور الإرهابيين من الاسلاميين المتشددين من دول الجوار وافغانستان وغيرها إلى العراق. ومن المتوقع أن يفضي هذا الخطاب إلى اشتداد حالة انغلاق الدول العربية وخاصة المعنية بهذا الخطاب على العراق، وترددها في ابداء مواقف فاعلة ومؤثرة في العملية السياسية في العراق وفي مساعدة هذا الأخير على الخلاص من دوامة العنف والفوضى، في وقت نتذكر أن الكثير من هذه الدول قد مدت يدها بالفعل للعراق بعد فترة قصيرة من غزوه من قبل الولايات المتحدة، وفتحت سفارات لها في بغداد غير أن نيران العنف استهدفتها فعمدت إلى إغلاق سفاراتها. والنتيجة، يمكن القول إن الفضائيات العراقية قد ساهمت بصورة مباشرة في تردي العلاقات العراقية العربية.



وصفوة القول: إن النتيجة النهائية التي نجمت عن هذا الخلل الهيكلي في أداء بعض الفضائيات العراقية وخطابها هو ما يلي:



* أنها خسرت المتلقي العراقي والعربي معاً وباتت -هذه الفضائيات- بمثابة الصحف العائدة لأحزاب سياسية تعبر عن لسان حالها، فشرعت تفقد مصداقيتها يوماً بعد آخر، وقد ساهم هذا الواقع في ترسيخ حالة الانقسام بين أوساط الشعب العراقي من حيث موقفه من الاحتلال.



* وتبعاً لذلك، فقد أفقدت هذه الفضائيات الشعب العراقي لاسيما قواه الوطنية الفاعلة فرصتها التاريخية في الاتفاق والتضامن من أجل تحرير بلدها من الاحتلال واستعادة أمجادها، بل على العكس فقد خلقت هذه المؤسسات حالة من الانقسام في هذا المبدأ المهم والذي بات الخطر الداهم للسلم الأهلي في العراق.



2- وبالارتباط مباشرة مع أعلاه، فإن معظم الفضائيات العراقية ذات صبغة طائفية وقد رسخت من الشرخ الطائفي الذي يفتت البلاد والذي لاشك أنه كان وراء حالة الانقسام والتشرذم والعنف الذي يضرب أطنابه في العراق. ولعل السبب الأوحد في ذلك هو أن العملية السياسية التي جرت منذ بداية الاحتلال مروراً بالعملية الانتخابية وما تمخضت عنها من انقسامات حزبية وسياسية فئوية، وبالتالي الفضائيات التي تبلورت في إطار هذه الأحزاب، قد قامت برمتها على أساس طائفي، وبالتالي كان من الطبيعي أن تعكس هذه الفضائيات الحالة الطائفية التي جاءت بها العملية السياسية. فمثلاً، يلاحظ أن الفضائيات الحكومية عادة ما تعكس مرئيات وبرامج القادة الشيعة المنخرطين في المعترك السياسي نظراً لأن النخب التي تمثل الأغلبية الساحقة في الحكومة تنتسب إلى قائمة الائتلاف العراقي، لذا فإن جميع برامجها الاعلامية تعكس توجهات هؤلاء القادة والتي من الطبيعي أن تلقى تأييداً من قبل الأوساط الشعبية لاسيما في مناطق جنوب العراق.



ولعل من أخطر ما تم استخدامه عبر هذه الفضائيات هو مسألة التريث في مقاومة المحتل بحجة أن وجوده مسألة وقت وأنه البديل الأفضل لنظام صدام، ثم يأتي مشروع فدرلة العراق بوصفه صمام أمان لضمان حصة أوسع من موارد النفط لمصلحة أبناء الجنوب، أما الشعار الآخر فهو منح الحرية الكاملة للطائفة الشيعية لممارسة الطقوس والشعائر على خلاف ما كان يفرضه النظام العراقي السابق. من هنا، فإن هذه المجموعة من الفضائيات قد عملت من دون إدراك على تشويه سمعة شريحة واسعة من شيعة العراق من ناحية ولائهم للوطن وموقفهم من المحتل، في حين تنتظم عبر جنبات التاريخ العراقي المعاصر صفحات مشرفة لهذه الشريحة في مقارعة الاحتلال البريطاني مثل ثورة العشرين وغيرها. ويقابل هذا المشهد، القنوات المعارضة للحكومة والتي غالباً ما تعود إلى الأحزاب السنية التي خسرت أغلبية المقاعد في البرلمان والحقائب الوزارية، وبالتالي فإنها عادة ما تستخدم خطاباً موجهاً للأوساط الشعبية التي تنتمي إلى المذهب السني لعله أكثر من غيرها لترسخ فيها القناعة بأنها مهمشة وما فتأت تخسر حصتها من إدارة البلاد ولم ولن تنال سوى نزر ضئيل من خيراته ومن الطبيعي أن تكون مضامين الخطاب الإعلامي لهذه الفضائيات هي الدفع نحو مقاومة المحتل، ومعاداة الحكومة، والنضال للحصول على سلطات أوسع في إدارة الدولة، علاوة على رفض الفدرالية ومعارضتها بغير هوادة. وبوسعنا أن نذهب في هذا الطرح لأبعد من ذلك حينما نسلط الضوء على فضائيات أخرى تحولت بالفعل إلى بنادق توجه بنيرانها تجاه القوات الأمريكية والحكومية أحياناً، حيث تبنت مشاهد ضرب قوات الاحتلال مقترنة بآيات من الذكر الحكيم والأناشيد الوطنية الحماسية والجهادية والتي لا ريب باتت تلقى تأييداً ودعماً معنوياً ومادياً واسعاً من قبل أوساط عراقية وعربية لا ترضى الاحتلال والتغيير الذي جاء به في العراق.



3- أن الكثير من الفضائيات العراقية بعيدة كل البعد عن حقيقة ما يجري في الشارع العراقي وما يعانيه العراقيون من مشكلات كَأدَاء لا تقتصر على فقدان الأمن والهلوسة السياسية، لا تلامس مختلف مفاصل حياتهم، مثل مشكلة تشتت العراقيين في دول الجوار وباقي أصقاع الأرض، والتهجير الطائفي داخل العراق، وانتشار الفقر، ومشكلة البطالة، وانخفاض معدلات الزواج، وتدهور التعليم، وانتشار الفساد المالي والإداري الذي ينخر مؤسسات الدولة، وتراجع الأوضاع الصحية بصورة خطيرة، ومشكلة التلوث، فضلاً عن قضية ارتفاع معدلات الجريمة، حيث يعد العراق أخطر منطقة في العالم طبقاً لتقارير المخابرات الأمريكية نفسها، وذلك كله يساهم في اضاعة وقت المتلقي العراقي في برامج تشكل طبقاً لواقعه المرير بمثابة مخدر يحيده عن توظيف ملكة عقله واستنهاض ضميره لنصرة قضايا وطنه وشعبه. من هنا، يمكن القول إن مثل هذه الفضائيات باتت بالفعل أداة لسبات المواطن العراقي وشللاً لقدراته وتعطيلاً لدوره في إعادة تعمير بلده وشعبه.



ما العمــــــل؟





يتجلى لنا من التحليل السابق أن الخطاب الاعلامي للفضائيات العراقية خلال السنوات الخمس الماضية من عمر الاحتلال الأمريكي يعد جزءاً مهماً من حالة التراجع المستمر في الحالة العراقية اليوم. ولا نظن ان هناك امكانية لتجاوز هذا الواقع من دون إعادة النظر في أمور أساسية لا غنى عنها، أهمها:



- انسحاب قوات الاحتلال من أرض العراق والذي لم يجلب للبلد غير الدمار والحرب الأهلية، وتحويله إلى ساحة تتقاطع فيها الإرادات والمصالح الاقليمية والدولية.



- إعادة بناء العملية السياسية على أساس الوحدة والمصالح الوطنية، والاحتكام إلى الكفاءة، لا الانتماء إلى الفئوية والطائفية. وبذلك فقط يمكن ضمان إعادة ترتيب البيت العراقي على أساس التوحد والتعاون بدلاً من الصراع والتفرقة.



- ضرورة إعادة هيكلة المؤسسات الإعلامية العراقية وخاصة الفضائيات على أساس من الموضوعية والحرفية والاستقلالية.



- وجود ميثاق شرف إعلامي تتعهد به كافة المؤسسات الإعلامية العراقية بالعمل بموجب المعايير الحرفية للعمل الاعلامي، وبالثوابت الوطنية المتعارف عليها.



- ضرورة تأسيس فضائيات عراقية وطنية تحفظ الثوابت الوطنية والقومية، وتنأى عن أية تدخلات خارجية، بل تمارس وظيفتها التي يفترض أنها تأسست بموجبها، وهي أن تغدو مرآة تعكس الحقيقة بمساوئها وحسناتها وتستعرض وجهات النظر المختلفة، وتعطي لأصحابها مساحات كبيرة للتعبير عن آرائهم بكل حرية وحيادية. على أن تحظى هذه الفضائيات بمختلف وسائل الدعم والمساعدة لتغدو بديلة عن الفضائيات العراقية الهابطة وغير الحرفية.



- ضرورة تطوير المؤسسات الأكاديمية الإعلامية والقيام ببرامج تدريبية وتطويرية للعاملين في ميدان الإعلام المرئي الفضائي من أجل الاستفادة من التطورات الحاصلة في هذا المجال في العالم.



- على الفضائيات العراقية التركيز على قضايا أكثر أهمية للشعب العراقي ومستقبله ليس فقط في المجال السياسي، بل في الجوانب الثقافية والاقتصادية والحضارية.