الوزير يدخل النار
مقال من جريدةالمصريون
3 ابريل 2008 للأستاذ ثروت الخرباوي
فكم فيها من عبر
هذه قصة حقيقية ما زال بطلها على قيد الحياة، وقد استأذنته فيكتابتها فأذن لي بذلك بشرط عدم ذكر اسمه، ولا أخفيك سراً أنني عندما استمعت لهذهالقصة كنت بين مكذب ومصدق، إلا أن الدموع التي انهمرت من عين بطلها وهو يرويها،وبدني الذي اقشعر من هول ما سمعت جعلا صدق الرجل عندي لا مراء فيه.
وبطلنا وزير سابق في وزارة سيادية ، كانت سطوته وقسوته مضربالأمثال ، وقد خرج من الوزارة عقب أزمة سياسية طاحنة مرت بالبلاد ، ولم يكن منالمقدّر لي أن ألتقي بهذا الوزير السابق لولا أن صديقاً لي أشترى منه قطعة أرض ،وبحكم الصداقة طلب مني صديقي أن أتحقق من الملكية وأحرر عقد البيع ، وعندما أنجزتالمهمة الموكلة إلىّ حانت لحظة التوقيع على العقد الابتدائي فطلبت من صديقي اصطحابالوزير السابق إلى مكتبي حتى يقوم بالتوقيع باعتباره بائع الأرض ، إلا أن صديقي زمشفتيه وزوى حاجبيه وقال بلا مبالاة مصطنعة ... الرجل بلغ من الكبر عتياً .... وقدلا تساعده صحته على الحضور إلى مكتبك، خاصة وأن مكتبك في مصر الجديدة وهو يقيم فيالضفة الأخرى من المدينة، فهل يضيرك أن ننتقل نحن إليه ؟... وثق أنه لن يضيع منوقتك الكثير، ففي دقائق سنكون في الفندق الأثير للرجل وهو فندق نصف مشهور في أطرافالجيزة في منطقة هادئة ، وقد اعتاد الوزير السابق ارتشاف فنجان قهوته صباح كل يومفي الركن الشرقي بهذا الفندق ، وحسبك يا أخي أنك ستلتقي بوزير كانت الدنيا تقوم ولاتقعد من أجله ، بل إن كل وزراء مصر في وقته كانوا يتمنون رضاه ... وعلى مضض وافقتإذ لم يكن من المألوف في عملي أن ألتقي بالعملاء خارج المكتب، وفى اليوم التاليكانت السيارة تنهب الأرض نهباً في طريقها إلى الجيزة، وكانت قطرات المطر تنساب علىزجاج السيارة الأمامي برتابة مملة ، في الوقت الذي ظل صديقي فيه يتحدث بلا توقفوبرتابة مملة أيضاً إلا أنني تشاغلت عنه بمراجعة الأوراق والعقود.
ومن بعيد رأيت الرجل ... يا الله ... أهذا هو من ارتعدت فرائص مصرمن بطشه وجبروته ؟ !! أهذا هو من ألقى العشرات في السجون وبغى وتجبر ...؟!! ها هويجلس وحيداً في ركن منزوٍ وقد خط الزمن بريشته خطوطاً متقاطعة على وجهه، وفعلالأفاعيل في تقاطيعه فتهدل حاجباه وتدلت شفتاه وبدا طاعناً في السن وكأنه جاء منزمن أهل الكهف.
وعلى الطاولة وبعد همهمات وسلامات قدمت الأوراق إلىالرجل وأعطيته قلمي كي يوقع على العقد ، إلا أنه أخرج قلماً من معطف كان يضعه علىكرسي قريب منه ثم خلع قفازه ، وارتدى نظارة القراءة وسألني بابتسامة باهتة ... أوقعفين يا أستاذ؟ فأشرت له إلى خانة في الصفحة الأخيرة ، وأمسكتها له كي أساعده ، وفىاللحظة التي قام فيها الرجل بالتوقيع على العقد جفلت يدي رغماً عني ، فوقعت الورقةمني ، إذ وقعت عيناي على ظهر يد الرجل اليمنى فرأيت بقعة مستديرة ملتهبة في جلدهيتراوح لونها بين الاحمرار والاصفرار وكأنها سُلخت على مهل، والغريب أنني شممترائحة شواء تنبعث من هذه البقعة وكأنها ما زالت تشوى على النار !!! ويبدو أن الوزيرالسابق تنبه لحالة الارتباك التي أصابتني ، وتوقعت أن يهب ثائراً متبرماً ، إلا أنهوعلى عكس ما توقعت نظر إلىّ نظرة حانية هادئة وكأنه أبي ، وإذا بملامح طيبة ترتسمعلى وجهه بلا افتعال، ملامح لا علاقة لها بالوزير المتغطرس الباطش المستبد ، وكأنملامحه الطيبة هذه تدل على رجل من أهل الله ، وبيد مرتعشة تفوح منها رائحة الشواءقدم لي الوزير العقد قائلاً : أتفضل يا أستاذ ، ثم ألتفت لصديقي قائلاً : مبارك علىالأرض .... إتفضلوا أكملوا الشاي.
ومع الرشفة الأخيرة وبعد عباراتالتهنئة جمعت كل ما أملك من قوة وقلت له سلامة يدك يا معالي الباشا، شفاك اللهوعافاك... خير إن شاء الله .... يبدو أن شيئاً ما أصاب يدك قبل حضورنا فشكلها ملتهبجداً.... ولم يرد الرجل إلا بتمتمة غير مفهومة، إلا أنه نظر في الفراغ الذي أمامهنظرة أسى وحزن وكأنه أتعس رجل في العالم.
ومرت أيام وشهور على هذهالواقعة وظلت نظرة الرجل التعيسة ويده المحترقة التي تفوح منها رائحة الشواء لاتغادر خيالي... إلا أنه لأن كل شيء يُنّسى مع مرور الأيام انزوت هذه الواقعة في ركنخلفي من ذاكرتي وسرعان ما تناسيت الرجل وتناسيت يده المشوية.
ومرعامان إلا بضعة أشهر وجاء موسم انتخابات نقابة المحامين ، وتزاحمت علىَّ الأحداثذلك أن أحد أصدقائي رشح نفسه لمنصب النقيب وكانت ضريبة الصداقة والوفاء توجب علىّالوقوف بجانبه عن طريق جلب الأنصار وتحييد الخصوم ، وحدث أن واعدني أحد الأصدقاءلمقابلة بعض الأنصار في نفس الفندق الذي التقيت فيه بالوزير السابق وقبل الموعدالمضروب كنت أجلس في نفس الركن الشرقي ارتشف فنجان القهوة المضبوط ، وأمسح حباتالعرق التي سالت على جبيني من فرط حرارة الجو ، وإذا برجل طاعن في السن يتوكأ علىعصاه ، ويتوجه على مهل إلى طاولة في أقصى المكان .... منفرداً .... منزوياً ... نعمكان هو الوزير السابق صاحب اليد الحمراء المشوية.
وبعد أن جلسواستوى على مقعده حانت منه التفاتة إلى الطاولة التي أجلس عليها , ثم إذا ببصرهيعود ويستقر عندي للحظات ، وكان أن تبادلنا الابتسامات والإيماءات ، ولغير سبب واضحقمت من مقعدي وتقدمت للوزير السابق محيياً مذكراً إياه بنفسي ، وبنفس الملامحالطيبة التي رأيتها عليه من قبل دعاني للجلوس ، وبعد التحيات والسؤال عن الصحةوالكلام عن الجو الحار والزحام وقعت عيناي رغماً عنى على يده فوجدته – ويا لعجبي – يرتدي قفازه الأسود !! – رغم حرارة الجو – فقلت بغير دبلوماسية وبعبارات فجة متطفلةلا أعرف كيف خرجت مني... كيف حال يدك يا معالي الباشا ... أشفيت إن شاء الله ... حرق هو أليس كذلك؟ ... وبكلمات بطيئة متلعثمة وجلة قال ... نعم حرق ولكن ليس كأيحرق ... إيه ربنا يستر.
ولدهشتي استرسل الوزير السابق في حديثهوكأنه يحدث نفسه ... طبعاً انت عارف ماذا كان موقعي في الدولة ، كنت الآمر الناهيوكان الجميع يخطب ودي تصورت أنني أعز من أشاء وأذل من أشاء وتصورت أن المنصب سيدوملي أبد الآبدين لم أفكر في يوم من الأيام أن هناك خالقا وأن هناك حسابا ، فحبستوعذبت وخربت بيوت بغير حق بل وأحياناً دون سبب ... وجاء يوم وليته ما جاء كنتعائداً إلى بيتي تحيطني سيارات الحراسة من كل جانب ، ولسوء طالعي وقع بصري على كشكقابع في جانب من الطريق فاستقبحت منظره ، وفى اليوم التالي أصدرت قراراً بإزالةالكشك وفي غضون دقائق معدودة بعد صدور القرار قامت قوات وجحافل بإزالة الكشك حتى لايقع عليه بصري وأنا عائد إلى بيتي، لا تسألني عن صاحب الكشك ولا عن حقوق الإنسانفوقتها لم يشغل هذا الأمر تفكيري ولو للحظة ، وقطع الوزير كلامه قائلاً: تشرب شايلازم والله... وقبل أن أرد عاد إلى حديثه دون أن ينتظر إجابتي ... وأثناء عودتينظرت إلى مكان الكشك فوجدت رجلاً متهالكاً يجلس على الأرض ومعه امرأة متشحة بالسوادوأطفال حفاة أقرب إلى العراة ، وعندما اقترب الموكب من المكان تمهل الركب لغير سببوكأننا مجموعة من الحجاج يطوفون حول بقعة قدسية ، فإذا بالرجل الجالس يهب واقفاًقائلاً بأعلى صوته يا فلان إتق الله.. اتق الله.
وضايقتني العباراتأشد المضايقة فسألت أحد اللواءات الذين كانوا يرافقونني من هذا؟ فقال لي: إنه صاحبالكشك ... ولم أنتظر لليوم التالي بل وأنا في سيارتي أصدرت قراراً باعتقال صاحبالكشك ثم اتصلت تليفونياً ببعض أعواني وأمرتهم بتأديب الرجل... ومرة أخرى قطعالوزير كلامه قائلاً: الله ...ألم تطلب شاي لازم والله ... ثم وبنفس الاسترسال ودونانتظار الإجابة استمر قائلاً ... أرقتني عبارة الرجل إتق الله كانت صادقة وقويةومجلجلة ، لم أتعود أن يقولها أحد لي من قبل ، هل تصدق أنني عندما ذهبت إلى بيتيتحدثت مع قريب لي في كلية دار العلوم حتى يشرح لي معنى كلمة "اتق الله" لا أعرفلماذا توقفت هذه الكلمة عند أذني وتجاوزت سمعي إلى داخل أحشائي فإذا بألم شديد يمزقمعدتي ... ومع بعض المسكنات والمهدئات حاولت أن أنام ولم أستطع وفى اليوم التاليرأيت في ذات المكان إمراة صاحب الكشك وهى متشحة بسوادها ومعها أطفالها العراة ، وإذابصوتها هي الأخرى يعلوا مجلجلاً يا فلان اتق الله ، وفى بيتي لاحظت زوجتي أرقيفهدأت من روعي وقالت لي: لا تخش شيئاً أنت من أهل الجنة خدماتك على البلد كثيرة حديقدر ينكر.
هل تصدق يا أستاذ ... هو بالمناسبة ألم تطلب شيئا ؟؟الله ألم تطلب شاي لازم والله، وعرفت أنه لن ينتظر إجابتي وبالفعل استمر فياسترساله الغريب... هل تصدق أنني نمت يومها نوماً عميقاً... ويا ليتني ما نمت .... وهنا بدأت دموع الرجل تنساب وبدأ صوته يتهدج ، نمت ورأيت في نومي أن القيامة قدقامت ورأيتني عارياً من ملابسي ، وإذا بملائكة غلاظ شداد لا أستطيع أن أصفهم لكيجذبونني بعنف إلى النار وأنا أقاوم وأحاول أن أبحث عن حراسي ورجالي ولكن للأسف لمأجد أحداً معي يناصرني أو يدفع عني العذاب ، هل تصدق أنه أثناء جذب الملائكة ليرأيت زوجتي فقلت لها أنقذيني فقالت : نفسي نفسي ، فتعجبت !! وقلت لها: ألم تخبرينيأنني من أهل الجنة ؟ فلم ترد ، حاولت أن أناقش الملائكة فقلت لهم لقد قدمت لمصرالكثير ستجدون أعمالي الباهرة في ميزان حسناتي فلم يرد علي أحد منهم ، وأثناء جذبيوجرّي نظرت إلى الجنة فوجدت قصراً عالياً شامخاً ليس له مثيل يظهر من خلال أسوارالجنة ، هل تصدق أنها أسوار تشف ما خلفها!! فقلت للملائكة هذا قصري خذوني إليه فقالأحد الملائكة إنه قصر صاحب الكشك فقلت ولماذا استحقه فقال الملاك لأنه لم يرضخللظلم وقال كلمة حق عند سلطان جائر فهو شهيد ، فقلت وأين مكاني قالوا في الدركالأسفل من النار ، وقتها حاولت التملص منهم وكنا قد اقتربنا من أبواب الجحيم ،وعندما هممت بدفع أحد الملائكة بيدي هذه إذا بلفحة بسيطة من حر جهنم تصيبني في ظهريدي ، آه لو تعرف يا أستاذ مدى الألم الذي أصابني لا يوجد مثله مثيل على وجه الأرض، مجرد لفحة بسيطة لا من النار ولكن من حر النار ، فقمت من نومي صارخاً فزعاً ونظرتإلى ظهر يدي فإذا به وكأنه احترق ورائحة الشواء تتصاعد منه وآه وآه وألف آه أسرعتبالاتصال تليفونياً بأحد رجالي فإذا به يخبرني أن صاحب الكشك مات من التعذيب ... مات لا وألف لا .... صرخت قائلاً .... أعيدوه للحياة .... أعيدوه للحياة أعيدوا لهالكشك .... ولكن لا حياة لمن تنادي .. سبقتني يدي إلى النار ... كنت قد اندمجت معحكاية الوزير حتى أنني لم ألحظ بكاءه ونشيجه ، وكان بدني كله مقشعراً وكأنني قنفذتائه في صحراء , ونظرت حولي فإذا ببعض الجالسين المتطفلين ينظرون إلينا باهتمامبالغ ، وتدحرجت كلمات مني لا علاقة لها ببعض : يا باشا ربنا غفور رحيم أطلب منهالمغفرة ... على فكرة أنا ممكن أطلب شاي .... هو الرجل مات فعلاً .... هي النارجامدة قوى .... ربنا يستر .... ربنا يستر ..... وبعد هنيهة عاد الهدوء للرجل واكتسىوجهه بملامح طيبة وظهرت في عينيه نظرة رجاء واستعطاف ثم قال ربنا غفور أليس كذلك ثمأردف إتفضل أشرب شاي.