العراق .. الفاجعة الإنسانية



تنامى شعور طاغ بالقلق في أوساط قطاع العمل الإنساني والدولي جراء ازدياد درجة التردي الاجتماعي المعيشي والتبعات الكارثية للاجتياح الامريكي للعراق والمتمثلة خصوصا في تفاقم حركة النزوح الداخلي والفرار الى دول الجوار. وإذا ما نظرنا إلى نخبة من الأرقام والإحصاءات الموثوقة في هذا الصدد فسرعان ما نلمس هول الكارثة الإنسانية التي حاقت بالعراق وشعبه والتي لم تشهدها المنطقة العربية من ناحية الحجم والمعاناة منذ تشريد الفلسطينيين قبل 59 عاما في أعقاب إنشاء دولة إسرائيل عام 1948 وما زالت معاناتهم مستمرة حتى وقتنا الراهن. فحسب تقديرات مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أصبح هناك نازح واحد من بين كل ثمانية عراقيين، ما يعني أن عدد المواطنين العراقيين الذين اضطروا لمغادرة بيوتهم ومناطق سكنهم إلى مناطق أخرى داخل العراق بلغ حتى الآن نحو 1.9 مليون نازح، من هؤلاء هناك نحو 730 ألف شخص هجروا في بحر عام فقط أي منذ وقوع تفجيرات سامراء في فبراير 2006 وتصاعد الاقتتال الطائفي إثر ذلك. كما تشير أرقام مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين الى أن عدد العراقيين الذين اضطروا للجوء إلى خارج العراق زاد حاليا عن مليوني إنسان تفرقوا في دول الجوار العربي خصوصا سوريا حيث تتصدر الواجهة المفضلة بوجود أكثر من مليون، ثم الأردن بحدود 750 ألفا، واللتين تتحملان حاليا أعباء ضخمة نحوهم اعتمادا على موارد وقدرات اقتصادية ذاتية محدودة للغاية. ولم تقتصر مأساة اللجوء والنزوح على العراقيين فقط، بل امتدت لتطال شظاياها لاجئين مزمنين آخرين على رأسهم أصحاب عمادة اللجوء في المنطقة، أي الفلسطينيون الذين لجأوا إلى العراق منذ عام 1948 والذين يقدر عددهم بنحو 15 ألف لاجئ، فكأنه لم تكف هؤلاء معاناة التهجير عن الوطن الأصلي لعقود طويلة إلا أن ينالوا نصيبا من تبعات الأحوال المتردية في العراق بل وأكثر لعدد غير قليل منهم نتيجة لأعمال الانتقام والاستهداف السياسي من المليشيات المسلحة والتي أدت إلى تصفية المئات واختطاف العشرات والدفع بأعداد متزايدة للنجاة بأرواحهم إلى مناطق مقفرة على الحدود السورية والأردنية.. إنها فاجعة جديدة بكل المقاييس الإنسانية أضيفت إلى تاريخ المعاناة المتواصل للاجئين الفلسطينيين.

إن إحصائيات وكالات الأمم الممتدة الإنسانية الأخرى الشقيقة لمفوضية اللاجئين حول الأوضاع المعيشية في العراق لا تبشر للأسف الشديد بوقف أو تراجع قريب لهذا النزف البشري المستمر للكيان العراقي وطنا ودولة حتى أصبح يلامس الخمسين ألف نازح شهريا.

إنهم يتركون وراءهم بلدا يعاني 15 مليونا من سكانه معاناة شديدة وأربعة ملايين مواطن يعتمدون بشكل كامل على المعونات الغذائية. وفيما تصل نسبة العاطلين عن العمل وارتفاع الأسعار إلى 50 في المائة لكل منهما لا يحصل 70 في المائة من السكان على الماء الصالح للشرب، ويفتقر 80 في المائة إلى خدمات الصرف الصحي، كما تبلغ معدلات سوء التغذية الشديدة في أوساط الأطفال نحو 23 في المائة. إزاء هذا الوضع المأساوي المتدهور وتجلياته المؤلمة التي لا يتحملها الضمير ولا العقل استنفرت مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين ـ أداة المجتمع الدولي الرئيسة المناط بها توفير الحماية والرعاية للاجئين في أنحاء العالم ـ أجهزتها وعامليها ومواردها المحدودة لتعيد ترتيب أولويات عملها الإنساني في المنطقة وتركيز جهودها على هذه القضية الإنسانية الكبرى وحث المجتمع الدولي للعمل سريعا وبشكل مشترك معها من أجل منع أو تقليل مخاطر تداعياتها على أمن واستقرار المنطقة.



وقد انبرت مفوضية اللاجئين للعمل في هذا الخصوص على عدة مستويات متزامنة. فعلى المستوى الأول سارعت رغم الصعوبات والعقبات الى تعزيز قدراتها الميدانية في أماكن عملها السبعة داخل العراق (بغداد، الناصرية، البصرة، كركوك، دهوك وأربيل) وتمتين علاقات التعاون العملياتي مع شركائها من الجهات الحكومية والمنظمات غير الحكومية الإنسانية. كما عكفت على رفع قدراتها في دول الجوار العراقي من خلال زيادة عدد موظفيها وخبرائها وخدماتها القانونية والاجتماعية ومساعداتها الإغاثية واللوجستية من أجل تنفيذ برامج تهدف إلى تلبية احتياجات الفئات الأكثر استضعافا وتخفيف العبء الواقع على كاهل الدول المستضيفة للاجئين. وعلى مستوى ثان أجرت المفوضية اتصالات رفيعة مكثفة مع حكومات المنطقة حيث احتلت فيها الأزمة الإنسانية العراقية حيزا هاما من مباحثات أنطونيو غوتيريس المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين مع قادة المملكة العربية السعودية والكويت والأردن وسورية وجامعة الدول العربية في شهري شباط (فبراير) وآذار (مارس) الماضيين حيث تم التأكيد على أهمية توظيف الشراكات الاستراتيجية الإنسانية بينها وبين مفوضية اللاجئين من أجل التصدي الفاعل لأعراض هذه الأزمة ودعم جهود المفوضية التي حسبما يقول غوتيريس عنها إنها «لا تمثل سوى نقطة في محيط ولا تستطيع سوى التعامل مع أعراض المرض حيث أن سبب المرض وعلاجه هو أمر سياسي. وإلى أن يجد الشق السياسي علاجا ينبغي على الفاعلين الإنسانيين الاستمرار في معالجة الأعراض».
إن ما يكابده اللاجئون والنازحون العراقيون في وطنهم وخارجه والمعاناة المضاعفة والمركبة التي يرزح تحتها اللاجئون الفلسطينيون في عراق اليوم المثخن بالجراح يحتم على العاملين في الشأن الإنساني الدولي ومن ورائهم المجتمع الدولي العمل الجاد والمخلص والدؤوب لرفع هذه المعاناة الرهيبة التي تفوق التصور بشكل عاجل في المدى القريب. إننا نتطلع إلى مشاركة فاعلة وعزم وتصميم في حشد الطاقات والجهود خدمة لهذا الهدف بل الواجب الإنساني النبيل