التواصل الاجتماعي... روح الإنسانية
بسم الله الرحمن الرحيم
التواصل الاجتماعي... روح الإنسانية
نعبر رحلة الحياة بدروب متعددة الاتجاهات والمسارب، ليكون لعمرنا معنىً وقيمة إنسانية. غير أن هذه القيمة، وتلك المعاني، لا تبدو جلية واضحة، إلاَ عندما نتواصل مع الآخرين، ونتفاعل معهم وفق معايير إنسانية- اجتماعية حقيقية.
ولأن الإنسان بطبعه كائن اجتماعي، فقد كان منذ البدء غير قادر على العيش منفرداً.
فقديماً كانت الأصوات المبهمة، ثم الرسوم والإشارات هي لغة الحوار والتواصل، حتى ظهر النطق والكلام ليحل عقدة اللسان والحياة معاً. عندئذ أصبحت رحلة الحياة أقل قسوة ووحشة، عندما وجد الإنسان رفيقاً وشريكاً له في الحياة يقاسمه همومه وأفراحه، يتبادل معه الرؤى والأفكار لتطوير وسائل العيش والاستمرار، ومن ثم رسم ملامح الإنسانية والحضارة معاً.
بهذا التواصل الإنساني تكونت القيم والمفاهيم، كما تكونت المجتمعات البشرية وظهرت الديانات السماوية لتحض الناس على التعامل بمودة وحب، ولتنظيم العلاقات الاجتماعية الإنسانية فيما بينهم.
إن من أجمل صفات مجتمعنا، هي تلك الألفة والتعاضد والتكافل، إذ إن المجتمع في أية بقعة( حي، قرية، مدينة) أسرة واحدة في كل المناسبات، والكل يعرف بعضه جيداً، صغيرهم يحترم كبيرهم. فلولا هذه الألفة وذاك التواصل لكانت الحياة خاوية أشبه بصحراء قاحلة مهما تنوعت وسائل الرفاهية. إلا أن للناس طبائع وصفات مختلفة في هذا المضمار، فهناك من يمتلك وجهين للتعامل مع الآخر حتى داخل الأسرة الصغيرة، حيث نجد بعض الآباء متناقضين في تعاملهم داخل البيت عنه خارجاً، إذ يكونون أكثر إيجابية ومودة مع من هم خارج الأسرة، بينما نراهم قساة بعيدين عن التواصل الرؤوف مع أفراد أسرهم (زوجة، أطفال) أو يكونون متسلطين لا يحسنون تلك العلاقة الإنسانية بحجة أن في ذلك هيبة ووقاراً لا يجوز تخطيهما من أجل فرض الاحترام لدى أفراد الأسرة. وهذا ليس صحيحاً، بدليل أن الحوار الإيجابي والتواصل مع الزوجة يقربها من الزوج، ويتم تفاعل مشاعر الحب والاحترام أكثر، كما يقوي الرابطة الروحية بينهما، وهذا أيضاً ينعكس على العلاقة مع الأبناء الذين يجدون في أبويهما ملاذاً رحيماً وآمناً في الحياة وخلال تجربتهم الناشئة.
هناك أيضاً ضرورة العلاقة الإيجابية مع الجوار وتفعيلها بالمودة والحب، وكثيرة هي الأمثلة الشعبية التي تعكس هذه العلاقة( الله أوصى بسابع جار، أو الجار قبل الدار).
من هنا نلحظ أهمية التواصل بين الناس أينما وجدوا. إلا أن طغيان الحياة المدنية الحديثة بكل أدواتها العصرية، أدى إلى شعور الإنسان بالغربة والوحدة، وبالتالي تضاؤل العلاقات الاجتماعية إلى حدودها الدنيا. إذ بات الإنسان لا يعرف جيرانه، ولا يتواصل معهم إلاَ نادراً، فحل التلفزيون بداية، ثم الفضائيات محل تلك العلاقات، كما حل الكمبيوتر والإنترنيت محل الأصدقاء، مما جعلنا غرباء حتى داخل بيوتنا، ونسينا أجمل علاقة إنسانية وهي الصداقة التي اقتصرت على صداقتنا للكمبيوتر والإنترنيت والبريد الإلكتروني الذي حل مكان ساعي البريد، صديق الجميع سابقاً، إذ كان يحمل إلينا الفرح والشوق في جعبته، من خلال رسائل الأصدقاء والأقارب. ولا ننسى الهاتف الثابت والمحمول الذي قلص التواصل إلى لحظات جد قليلة عبر الأسلاك والذبذبات الصوتية، مما جعل هذه العلاقة أيضاً تتأرجح بين التذبذب والسلكية المتأثرة بعوامل الطبيعة والتغطية.
صحيح أن لهذه الوسائل جميعاً فوائدها من حيث إنها اختصرت المسافات والأزمنة، وجعلتنا نتعرف بسرعة البرق إلى ما يدور حولنا في أصقاع الكون، إلا أنها أيضاً حاصرتنا في غربة داخلية حتى عن ذواتنا، مما أدى لانتشار أمراض نفسية كالاكتئاب وغيره من الأمراض التي جعلتنا في خصام مع الطبيعة ومع نُزهات أيام زمان، هذه العلاقة مع الطبيعة التي ما زال الريف يتمتع بها بنسبة أعلى من المدينة، إذ إن العلاقات الريفية ما زالت محكومة ببعض الحميمية والتواصل من خلال المشاركة الجماعية في الحياة الزراعية وأيام جني المحصول، وحتى الاجتماعية في الأفراح والأتراح.
إن زمن العولمة، وانتشار الفضائيات ووسائل الاتصال الأخرى، قد قوض العلاقات الاجتماعية والتواصل والألفة بين الناس، وهذا هو هدف أصحاب تلك العولمة، ضرب تلك الأواصر التي تجمعنا، والألفة التي تغلف تعاملنا، لكي نغيب عن الهدف الأساسي للإنسانية ، ونكون مجرد أرقام وشيفرات ندور في فلكهم ليسهل عليهم ابتلاعنا، أو في أفضل الأحوال، تسخيرنا لغاياتهم ومصالحهم.
فمتى نستطيع إبعاد شبح تلك العولمة البغيضة، بآثارها السلبية التي استلبتنا حتى من ذواتنا، وجعلتنا مجرد أشباح تجري في أتونها دون النظر ولو برمشة عين إلى ما طغى على الروح من ظلمة وقهر ووحشة، تلك الروح التي تتوق إلى انطلاقها في فضاءات التعاطف والتواصل والإنسانية؟
--------------------------------------------------------------------------------