الأنهار في القرآن
بقلم الأستاذ الدكتور حسني حمدان حمامة
أستاذ علوم الأرض في جامعة المنصورة
يقول الحق تبارك وتعالى: قال الله تعالى: (أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ ) [سورة الرعد].
أي أن الله أنزل من السماء مطراً فأخذ كل واد (Channel)بحسبه، فهذا كبير وسع كثيراً من الماء، وهذا صغير وسع بقدر، جاء على وجه الماء الذي سال في هذه الأودية زبد (Foam)عال عليه. وكان من حمولة السيل ما يسبك في النار من حلية (Ornament)ذهب وفضة ونحاس طلباً للزينة، أو ما يجعل منه متاعاً. وتشير الآية إلى وجوه عدة، نذكر منها ما يلي:
1. رتبة النهر: يشير قول الله تعالى:( فسالت أودية بقدرها) إلى ما يعرف في العلم برتبة الأنهار (Steam order)، حيث تصب الأنهار الصغيرة في الأنهار الكبيرة، وبذلك توجد أنهار رئيسية وروافد لها.
والنهر ذو الرتبة الأولى First Order stream لا يتبعه روافد، والنهر ذو الرتبة الثانية ينشأ من التقاء نهرين من أنهار الرتبة الأولى، وهكذا بقية الرتب.
2. حمولة النهر: تحتوي معظم أنهار العالم الكبيرة ما يقرب من 110ـ 120جزء من المليون من الأيونات الذائبة (Dissolved Ions)،أي أن كل لتر من ماء الأنهار يحتوي على 1/10من الجرم من المواد الذائبة. وتحمل أغلب أنهار العالم الجزء الأكبر من حمولتها في هيئة معلقات (Suspended Loads).
وتوجد حمولة القاع (Bed Load)على هيئة حمولة متدحرجة (Rolling)أو منزلقة (Sliding)أو منقذفة (Saltation).
الشكل التالي يحدد عدد مستويات الروافد التي تصب في النهر.
الشكل التالي يبين بعض أشكال الأنهار الصغيرة التي تصب في الأنهار الكبيرة
كما يظهر تنوع رتب الأنهار بحسب المجرى
ومما لا شك فيه أن معظم الحمولة سواء كانت معلقة أو حتى الذائبة، بالإضافة إلى حمولة القاع، مصيرها أن تستقر على القاع بعملية الترسيب، مكونة الرواسب المختلفة التي تتماسك بعد ترسيبها، وتتكون الصخور الرسوبية.
وتلك الحمولة المستقرة تتحدث عنها الآية الكريمة (وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض).
وتعطي الآية السابقة مدخلاً لدراسة كل من:
أ- رواسب المكث (Placer deposits)(ابتغاء حلية):
توجد علاقة حميمة بين الذهب والصخور النارية. ويتم تركيز الذهب بطريقة ميكانيكية، فعلى سبيل المثال يقوم نهر النيل بتركيز الذهب الذي تحمله المياه من جبال الحبشة، وأيضاً تقوم الأودية التي تسيل بالمياه بتركيز الذهب من المناطق الجبلية التي تخترقها. ويتركز الذهب ومعه كثير من المعادن الثقيلة ذات الأوزان النوعية العالية مثل الفضة والجارنت والروتيل والفلورايت وغيرها، حيث تمكث في قاع النهر. ففي الولايات المتحدة الأمريكية يستخرج الذهب بنسبة 5 ـ 10 من الإنتاج من رواسب المكث.
ب- الرواسب والصخور الرسوبية (Sediments and Sedimentary Rocks)(وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض).
تتكون الرواسب النوعية مثل رواسب المكث السابقة في قاع النهر أو على شاطئ البحر. وتكون الرواسب بصفة عامة الأرضية الخصبة في دلتا الأنهار، وقد تحتوي ثروات الغاز كمصدر مهم من مصادر الطاقة. ويتسع مدلول قوله تعالى : (ما ينفع الناس) ليشمل رواسب الرمل المستخدمة في صناعة الزجاجيات، ومواد البناء، وكذا رواسب الطين المستخدمة في صناعة الخزفيات والأسمنت وغيرها، ويتسع مفهوم المنفعة إلى الرواسب التي تحملها الأنهار إلى قاع البحر. وهكذا نجد أن الآية تشير إلى علم أساسي من علوم الأرض وهو علم الصخور الرسوبية.
الأنهار البديعة والأنهار الأسيرة:
من بديع صنع الله من المحير حقاً أن تشق الأنهار مجاريها ذات الجوانب الحادة في سلاسل الجبال في تحد عجيب. ولكن لماذا ينحت النهر مجراه في السلسلة الجبلية فيما حولها؟ حاول العلم الإجابة عن هذا السؤال فأعطى المداخل التالية:
1. عادة ما ينشأ النهر في الأرض الممهدة ذات الانحدار اللطيف التي تغطي سلسلة الجبال المدفونة تحت سطحها، أي أنه يركب فوقها. وينحت النهر رواسب الأرض ويكون أخدوداً في السلسلة الجبلية إنها يد القدرة التي مكنت وأوحت إلى النهر أن يتحدى الجبال الراسيات. وكثير من السبل في الجبال ما هي إلا أودية جافة، وصدق الله العظيم حيث يقول: (وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) [سورة الأنبياء].
2. يحدث أحياناً أن ينشأ النهر في أرض ممهدة قبل تكون سلسلة الجبال بعدة ملايين من السنين. وبعد أن تنتصب الجبال يستمر النهر في تحد غريب في تعميق مجراه قاطعاً السلسلة الجبلية. وتشير الآية القرآنية إلى تلك الحالة إشارة معجزة: (أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)[سورة النمل].
تأمل الترتيب البديع من قرار الأرض إلى خلق الأنهار إلى نشأة الجبال الرواسي ثم تكوين الحاجز بين البحرين. غور ماء الأنهار في قوله تعالى: (أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا) [سورة الكهف].
إشارة إلى غور ماء الأنهار، لأنه قد ذكر الله الجنتين، وقد فجر في الجنتين نهراً.
ومن الظواهر المعروفة تشكلات الكارست، وهي التي تنتج في الأقاليم المتكونة من الأحجار الجيرية والمواد القابلة للذوبان. ويعرف دارسو علم الأرض والجغرافيا أن الأنهار قد تختفي إذا انتهت إلى إحدى الحفر الوعائية (Sinkhole)المتكونة في الحجر الجيري أو في سطح الأرض بصفة عامة.
أخي القارئ من أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن رتب الأنهار أو عن ما تحمله من حُلي وهو الإنسان الأمي الذي لم يرى في حياته نهراً فكيف يعرف ما فيه..
إنه رب العالمين