اتباع حدود الله سبيل العزة والكرامة
الحدود؛ سواء العملية الرادعة، أو التشريعية كالنظم والقيم، بعضها يكمل بعضا؛ حيث ترسم مسيرة المجتمع وتضعه امام خريطة واضحة محددة، إذا تحرك الإنسان على أسسها وصل إلى الإيمان والسعادة، والا انتهى إلى ألوان العذاب، النفسي والاجتماعي والحضاري، لانها هي التي تحافظ على حقوق الناس وترعاهم، وتنفذ النظام بينهم.
والمجتمع الذي يسوده القانون ويحكمه النظام مجتمع عزيز، يشعر كل أفراده بكرامتهم وأمنهم وحرمتهم، وانهم ما لم يتجاوزوا الحدود لا يمكن لأحد ان يعتدي عليهم، على العكس من ذلك المجتمع الذي تحكمه الفوضى، ويكون هوى الحاكم؛ سواء كان ملكا أو رئيسا.. فإنه لا يحس بالأمن ولا يشعر بالكرامة.
هكذا كان فرض الحدود في الشريعة الإلهية بهدف تحكيم القيم لا الأفراد في المجتمع، حتى لا تضيع حقوق الناس.
قال الله تعالى: (وتلك حدود الله) المفروضة في المجتمع، ولا يحق لأحد ان يتجاوزها.
(وللكافرين عذاب أليم). سواء أولئك الذين يكفرون بالله تعالى وبرسالته وحدوده كفرا محضا، أو أولئك الذين يكفرون عمليا، فلا يلتزمون بأوامره ونواهيه، ولا يقيمون حدوده.
ومع ان عذاب الآخرة هو المصداق الأكبر لهذه الآية، الا انه يحل بالكافرين في الدنيا أيضا. ذلك ان حدود الله انما شرعت وفرضت لصلاح المجتمع وسعادته؛ فهي التي توقف الظلم والفساد، وتحصن المجتمع منهما.
بعد ذلك قال الله تعالى: (ان الذين يحادون الله ورسوله) معناه يقفون خصما لله ولرسوله، ويستخدمون الحديد في ذلك؛ أي الحرب الساخنة. وقال البعض: ان أصل كلمة يحادون من الحد بمعنى الفاصل، ومعناه إذن المواجهة بكل أشكالها حيث يقف المتنازعون كل على حد بازاء خصمه. وهذا المعنى أقرب، حيث ان المحادة في ضوء السياق القرآني الذي أشار إلى حدود الله ان يخالف الإنسان الحدود الإلهية، فيختار لنفسه حدود أخرى تشريعية وعملية، كالذي يأخذ بالجاهلية وعموم النظم البشرية القديمة أو المعاصرة، بدلا من شريعة الله؛ وبالذات أولئك الذين يقصدون العناد والجحود والمحاربة، فإنهم سوف يلقون جراء محاددتهم الإهانة والذل المركز، الذي ينضغط في النفس حتى لتكاد تنفجر.
قال الله تعالى: (كبتوا كما كبت الذين من قبلهم).
ممن ساروا بسيرتهم تجاه ربهم ورسلهم. وفي المنجد: كبته لوجهه؛ أي صرعه وأهلكه وأخزاه وأذله. يقال: كبت الله العدو؛ أي أهانه وأذله ورده بغيظه. ويقال: كبت فلان غيظه في جوفه، أي لم يخرجه.
إذن فالعزة والكرامة لا يأتيان بمخالفة حدود الله، لأن ذلك لا يورث الا الذل والهوان في الدنيا نتيجة لاتباع النظم والقوانين الفاسدة والضالة، بما فيها من معطيات سلبية وغضب الله وحربه، وفي الآخرة نتيجة عذابه المهين الذي قد ينزله عليهم بأيدي عباده المؤمنين.
وهذه الحقيقة ليست خيالا ولا وهما، بل هي واقع له شواهده في التاريخ والواقع، يهدي إليه العقل وتؤيده الآيات الواضحة.
قال الله عز وجل: (وقد أنزلنا آيات بينات) بالغة الحجة، ظاهرة الدلالة، تنذر الإنسان ذا اللب من محادة الله، وتهديه إلى ضرورة الإيمان به وبرسوله. فمن اتعظ بها انتفع وعز ونجى من كبت الله، والا وقع في العذاب والذل.
(وللكافرين عذاب مهين)
والملاحظ انه قال تعالى في الآية الماضية (عذاب أليم) وهذا يتناسب مع العقوبة التي هي موضوعها، بينما وصف العذاب هنا بأنه (مهين)، لأن من يحادون الله ورسوله يطلبون بذلك العزة لأنفسهم، والذل للحق واتباعه. وليس صفة أنسب في عذابهم من الاهانة والذل.
قال الله سبحانه: (يوم يبعثهم الله جميعا) للجزاء على أعمالهم، وقال تعالى (جميعا) لأنهم ربما تعاونوا على محادة الله والكفر، واغتروا بقوتهم وعددهم.
(فينبئهم بما عملوا) من السيئات عبر الحساب، ومن خلال العذاب، لأنه هو الآخر صورة حقيقية لما عملوا. كما ان اخباره تعالى لهم بأعمالهم يؤكده لهم شهادته على خلقه، وانه أخبر وأبصر بالإنسان حتى من نفسه، لأنه معرض للنسيان.
(أحصاه الله ونسوه والله على كل شيء شهيد)
وحينئذ ليس يتبين لهم صدق آيات الله، وخطأ أعمالهم ومسيرتهم في الحياة فقط، بل يصيرون من العلم على عين اليقين بأن الله تعالى شاهد على كل شيء، وانه حين تركهم في الدنيا يفعلون ما يشاؤون من معصيته ومحادته، فليس عن غلبة له، (ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون انما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد اليهم طرفهم وأفئدتهم هواء).
وانما يذكر الله تعالى بيوم البعث وشهادته على كل شيء هنا، لان محادة الله ورسوله وعمل السيئات ينطلق في الأساس من الكفر بالآخرة والجزاء، ومن الاعتقاد بالقدرة على تبرير السيئات والتملص من مسؤوليتها بالأسباب المختلفة.
فليس يلقى أحد هناك الا عمله الذي أحصاه الله وشهده عليه، لا يستطيع اخفاءه عنه ولا انكاره، ولا يخلصه منه شفيع ولا نصير.
==============================.:
</FONT>