في البدء اقول .. ان اسم (فالح حسن) كان يلمع مثل الذهب ، كان وما زال يملأ الذاكرة الشعبية العراقية ، لاسيما الفنية منها ،
حيث انه يمتلك تاريخا يمتد الى مسيرة كل المطربين العراقيين تقريبا من مختلف الاجيال على مدى ثلاثة عقود على الاقل ، وهو يشخص بآلة الكمان عازفا مميزا ببراعته ، قبل ان يصيبه العمى ويفقد ناظريه ويعيش حالة من الاسى والمعاناة ،
لكنه ما زال يشخص في العيون بصورته المؤثرة ، نال شهرة توازي شهرة بعض المطربين وتجاوز البعض منهم ، انه ذاكرة ثرية وعفوية وصريحة ، ومخيلة خصبة ، ذاكرة مترعة بالذكريات الدقيقة بتفاصيلها ، ألتقيته بالمصادفة في مبنى وزارة الثقافة ،
كان ينتظر ان يلتقيه وزير الثقافة لتكريمه ، صدمني منظرعينيه المطفأتين تماما ، مثلما صدمتني احواله المعاشية ، كنت انظر اليه واتذكر ايامه ولمعانه ، فوجدتني اجلس بالقرب منه واحادثه حديث ذكريات بكل ما فيها من مسرة وألم .
* منذ متى فقدت النظر تماما؟
-في نهاية عام 1985 ، والسبب هو انفصال الشبكية ، وفي وقتها قالوا ان عليّ ان اسافر فورا الى لندن لاجراء عملية جراحية هناك ، وبالمصادفة كانت لديّ حفلة مع الفنان سعدون جابر في لندن ، لكنها تزامنت مع بالحادث ، فرفع اسمي ووضع اخر بدلا عني ،
وبعد شهرين سافرت الى لندن على نفقتي الخاصة بعد ان بعت بيتي وسيارتين كانتا لدي وكل ما املك ، وفي لندن قال الاطباء ( لا يوجد امل) ، وحين اردت العودة الى العراق قال لي احد الاصدقاء هناك ان طبيبا امريكيا اختصاص بالعبون جاء الى لندن وانه سيتكفل بتكاليف العلاج ، فعرضني على الطبيب الذي قال ان هناك امل بسيط ، وقال صاحبي لابد من العملية واجريتها ،
وعدت ارى ولكن قليلا، وبعد العودة الى بغداد راجعت الطبيب الذي كان طلب مني ان اسافر ، وذكر ان معه كان يجلس الفنان محمد القبانجي ، فقلت له وانا فرحان : (دكتور صرت اشوف الصورة التي وراء ظهرك زين)، فقال بسخرية : ( موزين .. خليناك تشوف) ، هذا بدل ان يعاين عينيّ ويعطيني علاجا ، وعلى الفور انتابني الغضب فنزل بهما ماء فأصابني العمى !!.
* كيف كانت علاقتك بالمطربين اصحابك بعد العمى ؟
- انسحب اكثرهم مني وخاصة سعدون جابر وحسين نعمة وياس خضر ، ما عدا المرحوم رياض foraten.net/?foraten.net/?foraten.net/?foraten.net/? الذي اهتم بي كثيرا وكذلك قسم من مطربي الريف ، كما ان الفنان حميد منصور ما قصر معي حين سافرت ذات مرة الى سورية ، وبعضهم كنت اتصل بهم بالتلفون فلا يردون !!.
* هل كنت تعمل في فرقة تابعة لاحد المطربين ؟
- نعم .. كنت رئيسا لفرقة سعدون جابر ، وسافرت معه الى العديد من الدول الاوربية والخليجية ، كما ذهبت معه الى مدينة ليبية اسمها (سبها) رملية وحارة جدا ، ولكن بعد ان فقدت نظري جاء بـ (كمنجاتي) اخر ، ربما انه قال ان الرجل ضريرا ولا استفيد منه ، وانا حزين لانه تركني نهائيا ولم يتصل بي طوال هذه السنوات ، ولكنني اذكر له طيبه معي ونعم الطيب ، عندما كنت معه واعتقد انه كان يفعل ذلك لانه كان يحتاجني .
* هل لك ان تحدثني كيف بدأت علاقتك مع الموسيقى ؟
- دخلت الى معهد الامل للمكفوفين عام 1952 ، كنت ارى جيدا ، وحين تخرجت من المعهد بداية عام 1958 لم اكن املك شيئا وحالتي رثة واهلي ضعفاء الحال ، لكنني اشتريت دنبك (طبلة) واشتغلت مع مطربي الريف انذاك وكانوا يعطونني اجورا قيمتها (250 فلس) عن كل حفلة ، ثم زادت الى (500 فلس) ثم صعدت الى دينار واحد ، كنت عازف ايقاع ، عملت لمدة اقل من سنة وحاولت ان اجمع مبلغا من المال اشتريت به (كمنجة) ،
بعدها بدأت اتجول في مناطق العراق من الجنوب الى الشمال ومن الشرق الى الغرب ، كل شهر اذهب الى مكان ، استمع واسأل عن الاطوار الغنائية التي يغنيها ابناء تلك المناطق ، فعرفت كل الاطوار الريفية والبدوية وغناء اهل المنطقة الغربية .
* من هو اول مطرب معروف تعاملت معه ؟
- سلمان المنكوب هو اول مطرب عزفت له على (الكمنجة) وكنت اذهب معه اينما يذهب وبقيت معه مدة قبل ان اتحول الى المطرب سيد محمد ، الذي كان طوره يختلف عن كل اطوار الغناء الريفية المتعارف عليها ،
ثم تعرفت الى المطرب حسين سعيدة ثم المطرب جويسم كاظم وسيد فالح الذي تعرفت منه على عازف الايقاع المعروف (كريري) ، ثم انتقلت الى مدينة العمارة (جنوبي العراق) وعملت مع بنات الريف مع فرقة (عيسى حويلة) الذي كان عازف الايقاع الاول في العراق ، ثم تعرفت على مطربين عدة هناك قبل ان اعود الى بغداد واتعرف على المطرب حضيري ابو عزيز .
* كيف تعرفت على حضيري وكان حينها مشهورا جدا ؟
- كان ابي على علاقة به وهو الذي ارسلني اليه ، كان هذا نهاية عام 1959 كما اتذكر ، وجدته في منطقة (علاوي الحلة) ، كنت خائفا جدا ، فمن يستطيع ان يحكي مع حضيري ؟ !!، وقفت امامه وانا ارتجف قال لي (انت تعرف ادكك ؟ ) قالت له : ( اي .. اعرف) ، قال : (دكنا شوية) ، ففتحت الكمنجة وعزفت له قليلا ، فنظر الى ابي وقال له (ابنك بيه كظة !!) (اي .. انه واعد) ،
ثم اعطاني موعدا في مقهى المطربين في الصالحية لصاحبها (ابو عروبة) ، وقفت في باب المقهى فصاح لي وادخلني ، كانت في المقهى فسحة مساحتها عشرة امتار ، قال لي (دكك)، كان هناك المطربون : ناصر حكيم ومحمود النجيفي وعبد الواحد جمعة وجواد وادي وعبد الجبار الدراجي وصاحب شراد ، وعزفت لهم ، قام احدهم يغمز للاخر استحسانا ،
اذكر انه في حينها كان هناك برنامج جديد بالتلفزيون اسمه (ركن الريف) ، وقال لي حضيري : نريدك معنا في البرنامج ، قلت له : لا اعمل الا رئيس فرقة ، استغربوا قالوا (ما يصير) قلت (هذا هو ) حضيري قال لي : ( ولك واذا ما ادبرها .. تره اكص اذانك) ، وسجلنا ونجحت وصار المطربون يتنافسون عليّ ، ومنذ ذلك الوقت صرت اذهب معهم في حفلاتهم بأجر قدره (دينار واحد) ، واذكر ان اي عازف ما كان يأخذ هذا الاجر لذلك شكلت حزبا للعازفين شجعتهم فيه على الاجور فاحدث ذلك ضجة بين المطربين الذين قالوا لي (انت ما تستحي تشجع الناس علينا) !!.
* ومن غير المطربين الريفيين عملت معهم ؟
- كثيرون .. لكنني سأذكر لك عن علاقتي بالمطرب سعدي الحلي ، تعرفت عليه وكان يعمل سائق سيارة اجرة (تاكسي) على خط بغداد – الحلة ، وكان يأخذني معه الى الى الحلة ونسجل ونرجع في الليل ، لكنه لم يعطني اي فلس ، يؤكلني باقلاء بالدهن ويرجعني !!،
في احدى الحفلات عند عباس الوادي (صاحب تسجيلات) وكان معنا الشاعر محمد القصاب ، شربوا شربا ثقيلا ، انا استبدلت قنينة العرق بالماء ، قلت مع نفسي (الى متى اعزف بلاش (بدون مقابل) ؟ ، حتى اذا سكروا تماما ، قال لي الشاعر محمد : (شوف العرك هاليوم سوانه فرجة / بيدك فلاح يلوك دك الكمنجة) ،
اما سعدي فكان يردد قائلا لي (يا مؤدب يا حنين) ، صاحب الحفلة اعطاني الاجرة وكانت (6 دنانير) ، اجرتنا جميعا، اخذتها ودفنتها في عبي ، في الصباح اخذنا سعدي الى بائع الباقلاء بالدهن ، تريكنا (فطرنا) وبعدها اردنا العودة الى بغداد ، رفض سعدي ان اقود انا السيارة ، ولانه كان سكرانا فقد وضعت يديّ من الخلف على كتفيه وصرت ادق عليهما اطلب منه ان يذهب يسارا او يمينا ،
ووصلنا الى علاوي الحلة ، انا اخذت ادنانير الستة وذهبت ، وفي ايوم التالي جاءني مشتعل وروحة محروقة ويطالبني بالدنانير قلت له : اطلب اجور ثلاث حفلات وهذا حقي ، سعدي انا ادخلته للاذاعة مثلما ادخلت المطرب ياس خضر !!.
* كيف ادخلت ياس خضر ؟
- ياس خضر كان موظفا في مستشفى في باب المعظم ، كان قاطع تذاكر ، تعرفت عليه هناك عام 1964 واتيت به الى الصالحية ، وسجلت له في استديو الفنان جميل بشير اغنية من الحاني عنوانها (تواعدنا على الموعد اجينا) ، وبعد ذلك عرفته على الملحن طالب القره غولي الذي احتضنه ، لكنني اختلفت معه فيما بعد حين وجدت انه كتب ان الاغنية من الحانه ، ولم اطلع معه حفلات ابدا .
* على ذكر الالحان . هل لحنت ؟
- لحنت للكثير من المطربين ولكن اغلبهم كان ينكر اسمي ، ومنها اغنية لسعدون جابر (خبب يمشي المدلل) نكرها ابضا .
* من اكثر المطربين ارتحت في العمل معهم ؟
- خضيري ابو عزيز ، لانه لا يأكل حق موسيقي ابدا ، ثم داخل حسن ولكنه كان جشعا لايعطي الاجور بسهولة ، اما ناصر حكيم فكان يقول صاحب الحفلة (هات لي صينية (انية الطعام) وانا ادق واغني وماذا تفعل بالموسيقيين ،اما صاحب شراد فكانت نفسه طيبة ، اما البقية فهم (مصلحجية) !!!.
* ما اطرف المواقف التي مررت بها ؟
- كثيرة جدا ، فماذا اتذكر لك منها ، ساحكي لك عن المطرب عبادي العماري الذي جاء الى الصالحية وسأل عني وقال اريدك تجي معي نسجل حفلة في مدينة الثورة (الصدر) ، كان هذا عام 1962 وكانت المدينة في طور البناء وكنت اخاف ان ادخل اليها ، فأنا بيتي في مدينة الحرية ، قلت له اريد دينارين ، قال : انا اخوك والذي تطلبه كثيرا ، وحين رفضت قال سأعطيك دينارين ،
ومشينا وحين وصلنا منتصف جسر الاحرار قت بيني وبين نفسي (هذا مو ثقة واكيد ما راح يطيني الدينارين) ، فقلت له لا اذهب معك الا ان اعطيتني الدينارين ، قال : بعدين ، حاولت ان انسحب لكنه اعطاني الدينارين ، وذهبت معه وسجلت وارتحت له لانه غنى بشكل ممتاز وصوته جميل ، كان الوقت بعد منتصف الليل والجو باردا جدا (جحيل) ،
وغادر المكان وذهبت وراءه لكنه دخل الى بيت وتركني وحدي ، الظاهر نساني ، بقيت واقفا في الباب في البرد ، فطرقت الباب فطلع لي شخص اسود وصاح بي (شتريد ..) ، انا خفت منه ، قلت له انا صاحب عبادي ، قال : (وجاي نص الليل) ، وبعد قليل جاء عبادي وادخلني ولفلفوني ببطانية لانني كنت ارتجف من البرد .
* من هو اخر مطرب عملت معه ؟
- رعد الناصري سنة 1988 وكان حينها جنديا وسجلنا له شريطا هو الاول له واستمريت معه ، وارجل اى غاية الان يتصل بي ويسأل عني .
* ألم تحاول العمل من جديد ؟
- احاول طبعا وشاركت قبل شهرين في حفلة ، ولكن المطربين الان لايريدونني ولا يريدون عازف الكمان لانهم يشتغون بالاورغ وفي المطاعم هناك فرق موسيقية .
* يشاع عنك انك قلت ذات مرة مرة انك تستطيع ان تجعل الكمان يتكلم ما صحة هذا ؟
- نعم قلت هذا عام 1960 ، واذكر حينها توفى جدي لامي وكنت انا فرحان بـ (كمنجة) عندي ، فأردت ان تذهب الجنازة كي اعزف ، اختبأت تحت (القنفة) (الاريكة) ، واثناء ما كنت اعزف اذن المؤذن من المسجد القريب ، فقمت اطيق (التون) مع المؤذن ، فقلت بيني وبين نفسي : (لولا خوفي من الله عز وجل لتركت الكمان يتكلم) !! ، واستطيع من خلال الكمان ان انادي على الاشخاص بأسمائهم .
* هل عزفت لمطربين عرب ؟
- اشتغلت مع ميادة الحناوي وسيد مكاوي وسميرة توفيق وسميرة سعيد .
* هل تعتقد انك عازف له شهرة اكثر من محلية ؟
- عندما كنت مع سعدون جابر ، كنت اعزف في لندن مع فرقة موسيقية ، الموسيقيون المصريون عندما سمعوا عزفي تركوا اماكنهم وجاءوني وهم يقولون لي (قول تاني) وكانوا معجبين بما قدمت ، كذلك المطرب سيد مكاوي في الكويت وفي مكان خاص عزفت فسمعته يقول (مين معنا؟ ، هذا اصبع عراقي) ومنها تعرفت اليه .
* كيف حالك الان ؟
- جالس في البيت وليس لدي اي شيء وانتظر رحمة الله فقط ، لدي القوة ولكن بدون اي دعم معنوي او مادي ، البيت الذي اسكنه استأجرته وقد أذاني الايجار جدا ولا استطيع عليه .
* حين تفتح باب ذاكرتك .. ما الذي يأتي اليك اولا ؟
- بصراحة .. اتذكر حين تركني سعدون جابر وسافر الى لندن وجعلني ابيع كل شيء ، انه أذاني ، وكان من الممكن ان يأخذني معه واجري العملية هناك !!.