آلاء "محمد منيف" شاهين
قسم هندسة الكمبيوتر
كانت تكتب، وأحيانا ترسم، تخبئ لوحاتها في خزانتها الصغيرة في آخر رف فيها حتى لا يعبث بها الآخرون، وكانت أحيانا تغني، صوتها جميل، يماثل العصفور في تغريده، لكنه حزين، فهي لا تغني إلا عندما يتفطر قلبها، فهو أسلوبها في التعبير.
كانت في بعض الأوقات تكتب رسائل إلى من تظن أنه يقرأها، ربما أحيانا تكتب ثم تمزق أوراقها، لكنها منذ أسابيع قليلة تكتب بشغف هائل وترسل برسائلها إلى عناوين معينة وبأسماء أشخاص خاصة.
قد ترسل أحيانا عبر الايميل العشرات من الرسائل إلى عناوين مجهولة، أو تذهب إلى صندوق البريد وتشتري طوابع مناسبة لكل مدينة وتدفع تكاليف الإرسال وترسل رسائلها، لتتلقى بعد أشهر رسائل مشابهة، فتحدق طويلا بها، تفرح لأنها وصلتها وتضمها بيديها قرب قلبها تقبلها وتفرح بها، فها قد وصلتها رسالة، لعل أحد ممن كتبت إليهم كتب يرد عليها.
لكنها كانت دائما تجد رسائلها، وقد عادت إليها لعدم وجود الشخص الذي أرسلت إليه، فتخبئها في خزانتها وهي تعتقد أنها ستقابل يوما ما من ستعطيه تلك الرسائل. اشترت ألوانا جديدة، زيتية ومائية، وجلست مساء ذلك اليوم ترقب غروب الشمس وترسم. كانت أشعة حمراء توشحت بالأزرق والأسود قد انبثقت من خلف الجبال بعدما غابت خلفها الشمس، وارتفع السواد في السماء ليعلن قدوم ليلة جديدة.
حدقت لينا كثيرا في ذلك الشعاع الغائب، ومسحت بعض الدموع التي سالت من غير أن تشعر بها، عادت تمسك فرشاتها وترسم بالأحمر المزرق المتشح بالسواد ذاك الشعاع الغائب. كانت ترسم بتركيز عال جعلها لا تنتبه لتساقط دموعها على أجزاء أخرى من اللوحة فأفسدتها. جعلت الألوان تمتزج مع بعضها ولشدة سوادها كانت دموعها أيضا داكنة غامضة كلون السماء السوداء المدلجة.
توقفت لينا عن الرسم ووضعت فرشاتها جانبا، نظرت هناك في الأفق المقابل الذي تشرق منه الشمس، نظرت بعمق وحدقت كثيرا، لكن الشمس لم تشرق بعد، كانت رغم حبها لذاك الغروب الساحر تحن لعودة الشمس من جديد في صباح اليوم التالي، وتجلس أحيانا طوال الليل ترقب شروقها كي تفرح بعودتها مثل حبيب غائب.
لم تأت الشمس ذاك المساء، فجلست لينا تغني بصوتها الحزين، تنادي على الغائب البعيد، ثم أمسكت قلمها وكتبت كلمات إليها. كانت رسالة جديدة لكنها هذه المرة إلى الشمس التي كانت في تلك اللحظة تريدها ولم تكن هنا، فما بالها لا تكتب إليها! فكتبت إليها هذه الكلمات: أيها النور البازغ القادم من شريان قلبي الحبيب، يا من سكنتِ مشاعري طويلا فأستوطنت فؤادي، غبت بلا عودة وجعلتيني وحيدة، أنتظر عودتك كل ليلة، فلم لا تأتين إلي وتبقين معي طويلا، أو آتي أنا إليك وأزوارك وأسعد بنورك ودفء لقاءك.
سآتي إليك، لن أنتظر أن تأتي أنت إلي، فاسمحي لي، سئمت من غربتي ووحدتي، سآتي إليك لتضميني بنورك وتنسيني آلام السنين، هذه رسالتي الأخيرة فأرجو أن تستقبليني، أنا قادمة إليك، تحياتي .. لينا.
وضعت الرسالة وألصقت المغلف، كانت تحاول أن تبحث عن وسيلة توصل إليها الرسالة، وبعد تفكير طويل، قررت أن تذهب إليها وتعطيها إياها بيدها، انتظرتها حتى الصباح فسعدت كثيرا لشروقها، حملت لوحاتها وريشتها وقلمها، وأخذت الرسالة، واستعدت لرحلتها الطويلة للقاء الشمس.
فمشت في شوارع كثيرة طويلة وقصيرة، وطرق كثيرة، عبرت بحارا وأنهارا، جبالا وسهولا، وكانت تمضي ليلها ترسم غروب الشمس، وتكمل الليل انتظارا للشمس، وفي الصباح تسير إليها، وكلما رأتها أمامها تحس أنها اقتربت منها، وهكذا بقيت لينا تسير وهي لا تدري أن العمر قصير وأن المسار طويل، بقيت تسير تخبئ جمالا ساحرا في لوحاتها، حبا عظيما في قلبها، بقيت تسير وترسم دموع عينيها مسارات من الحنين على خديها، أما رسالتها فقد كانت بعضا من مداد قلبها.
وفي ليلة من ليالي المسير، أغمضت لينا عينيها ذاك المساء تحلم بالشمس من جديد، ووضعت تلك الرسالة بين يديها قرب قلبها، وتوقف الزمان وجاءت لينا إلى الشمس، وغاب الليل عن حياتها، ورأت لينا نفسها تسكن قرب الشمس، وغابت الأحزان والدموع إلى الأبد عن فؤادها الرهيف، ووجدت أخيرا ابتسامة لم تفارق شفتيها وسعادة غامرة ملأت قلبها.
لكن المارة الذين مروا بقربها ذاك المساء... هرعوا لإبلاغ الشرطة: أن فتاة جميلة تبدو فنانة مجنونة كانت في رحلة إلى الشمس كما تبين من رسالتها، قبل أن يجدوها قد فارقت الحياة.