طلتْ كطلوع الصبح (هُذيلة)، كمطر يرش رصيف قمر فوق الورد بتفتح المساء...، كسياج طين مرح يعند ببلابل صيف...، كسفرجلة ندية من نوم البارحة، تتفاوح روعة...، ترسم السماء عينيها وسامة أملوحة.... تنهيداتها خفيضة مليئة، كسرب عصافير واهجة بلا عتبة دار تسافر، لملمتْ حبات كلمات شيقة من غيم سنين يرافق مجيئها من بدر بعيد...، تقترب مني... تصل الي..بل تدلني بملل، كوريقة ظهيرة تشرين بسابق حال منفلتة الأنهاك...، شاردة من سحيق ذاكرة ليالي البرد الراشقة، تساورها بل تشيل أغواءها بنعش جديد، وسهرات تعجبها صاخبة...، أمضت (هُذيلة) مشعالة تنضح حزن وغضب، وهي تتابع أعتذارات لم يلوثها الصمت أو لبثة كلمات..، تنسج غمرتها بخيوط عشق هواها بوهج عظيم... تفتح قطرات المطر شرفة نهديها فجأة بعظمة نبلٌ للعصفور، يطوح بها أبدية زقة سرّ الحنين وهي تدور بالخدر المسجى بأناقة قرنفلة... . حيث أقيم هناك..، أطبع القبلة تلك، لجفن عينيها، أشرّأق وأتوقد كقمحة..، تنظر اليَّ من شقوق الظمأ وشدَّ الخناق، كيف أتنّبع مهلوكاً بالشوق، متألقا بلمعانه...، و(هُذيلة) ترسل لي نياط ظمئاً يتسرب النجوم سيلاً من عينيها لأوردتي ...، وانا كائنا تتفاوت بي النيران تعاظماً، مكرساً بين التراقص لنخب مأتمي وروعة التعري لأطلاق صراخي...ما جدوى أن أغمد تعرقي هذا...!، والحزن يكتظ بي كنخيل مقلوب....! أين أمضي لأسكّت حنجرتي.!!
أنزلقنا أنسكاباً في أحد الأزقة الحجرية الضيقة للحارة القديمة في (الدوار الاول حيث مقهى "الوايلد كافييه") القليل الزوار...، عشاق كانوا، يغطون بأغماضات وينزوون...، حيث لا مصائد أخبار للمذياع ولا معادن للعيون، ولا خداع المُحارب الفاشل-المتلصلص، ومأربه المسيجة بالاستراق والتكاذب....، هكذا كنت بحاجة لمكان كفستان غنج تائه، يحرقني دون أشفاق، فوق جسد أمرأة تعزف تيهه. بحاجة لصمت مكان ان أشم به الاطياب المقدسة من زواياها كأبط أمرأة نديّ، تشقرَّ شفق الشمس وهي ترقص بالتلاشي. كنت أشتهي في المقهى مكانا، له لواعج عشق ونقلة أقدام راقصة...، لها محبة مجردة في الذهن...، لها أحشاء بلذائذ تحلم، وتتنزه، وتصطخب، وتتحرق، وتقوم وتقعد كعيون(هُذيلة)، كتلك الالوان المسائية في المقهى والسماء....أردفت علي بنظرة قائلة:
- حبيبي صمتك يستفزني... يجردني من فرحي.. يحزنني.! (هكذا انعمت (هُذيلة) بعد صمتها الطويل.. وشاءت لي بهذه الكلمات، واصرت بعينيها الا أتعجب، ولا أتماضى بذاكرتي لأغادر المعنى)
صمتت... وصمتها يستأذنني ليذهب كالبط للنهر، صمت مفتون كزهر الليلك بظفائر شعرها الاشيب يدور...، مكتظة بالنعاس والقلق كحانة في أخر الليل، وعيناها الناعستين كمخطوطات تاريخية تحذو باضواء الاقمار المتلئلئة لعينيها قبل الاغماض...، تسحبني للتأمل أكثر... وما لطعم النبيذ الساخن وهي كمتحف تسكرني. همست اليها:
- يا مُعَلّقتي، أحب أنفاسك.. وصوتك شيق يغريني! (حبست كلماتي الاخيرة بتأملهما في الأيهام والغموض والغيبوبة وبتفاصل الأشتات...وسكتُ)
أدع باجنحتها الناعمة تجمعني...، أمسي متكورا ومتمددا بين حضنها وقبلتها كخبزة ريفية أتسخن. كانت ظفائرها مبللة كلبلاب عصافير طاح من حبل غسيل. ألهو وأتظلل بها وهي تقطف أسفاري بهذا الوجع المتقاسم، تسيجني بقصص ضحكات صبية قرطاجة عند الاحراش، وقُبُلهم الخضراء...، أذ ذاك لامتناهيأ أكون، حين أبلغ لأول وهله نهدها المباغت، وهو كليمونة ريانة يتحرك، أماثل رحب التوق به كعصفور لاهي تحته... أسمع هبوب قلبي يرتجف كوريقة خريفية دائخة تحت مصطبة قديمة...، يتلامس صمتي بقايا مساء نسائمها.! أتأمل مهلة واقول لنفسي ( ...هل سيغني القادمون من سفر بلاد الشمس بعيد ميلادها...؟، وتنطق جميع طيور الحديقةّ..؟، ويرقصوا الأطفال.. بائعوا الورد في الشوارع كذلك.؟! أم بالانتظار غفلة...؟!!...بل اين هم بائعوا الورد..؟؟!!) تمر الأفكار مسرعة حبيسة تعج بغضب في رأسي، كما شطأن كانت...بل أين أفتح عيني لأغمضها ثانية...والبوم فوق الحانة يحوم...!!...قبلتني وقالت حان الموعد للرحيل من سطو الصمت للنهر، لأداعب واغسل أقدام قصائدي قبل النوم....فجأة أًوتْ في غمضة دفئ بين ذراعي..، أدخلت أوردتها في صيف البرد، وجاءت غيمة معتقة من سنين أزالت الشمس نحو الغروب.... . ومدت (هُذيل) ذراعيها في وسط عيني كتلال لينة ...ورحلت وئيدا وئيدا تعوم بعيدا بعمق في النهر...ثم أختفت....، وتركتني للمدينة... المدينة الرصيف... المدينة الشبابيك..المدينة الابواب...المساء البارد، حيث نسيج العناكب والحقائب. !
ها هي السماء أطبقت على رأسي مرة أخرى حين غابت...، نحّفت أسئلة البنفسج بوجنتي...ومات الحلم بوجه هادئ.! وأنا لا أعرف بأيّ الأتجاه الجسور تسير...؟ ولا أعرف كيف أفرغ من المصيبة...؟! أأأأ..سأجهد لأجدك...؟!...ام أنتهت...بل وكيف أُسمي الأنتهاء...؟!..... يا للكارثة؟!!!
منقول من
د. عبد الرحمن شاكر الجبوري