ظلمات فوق ظلمات
مهداة إلى روح "جينفر دزاكّوني" الفتاة الإيطالية التي
تم وأدها وجنينها قبل أيام بمدينة البندقية
أمي ...أتسمعينني ؟ أنت يا عشتار كل الكواكب، يا نبع الحياة، يا إلهة الجمال و الحب، أنا هنا ...أسمعك، أعبدك و أعشق جمالك الملائكي ، بسمتك الأخاذة، أحلامك، أنفاسك، دقات قلبك و حتى أحزانك...أسمعك و أراك ...أمي، أنا هنا برحمك الدافئ ، انتظر الخروج ...لأحضنك و لأنعم بوهج النور بجانبك , لكنني أتوسل إليك لا تريني إياه، لا أريد أن أعرفه أو حتى مقابلته، أرجوك أماه لا تتركيه يفعل بك كل هذا، هو لا يريدني ابنا ! و لا يريدك زوجة ! عشيقة فقط يشتهيك، كي يقضي معك أوقات نزواته المريضة، اتركيه و ليذهب إلى الجحيم، اتركيه و احمليني بأحشائك دونما ألم أو خجل ...لا تخافي مني أماه، أنا الحياة بداخلك، أنا نفخ روح الخالق، فلم كل هذا الألم ؟ أتخشينهم ؟ أحببتيه ...و جعلت منه إلهك ...كنت تعلمين أن له امرأة أخرى و أبناء آخرين ...فلم البكاء الآن يا صغيرتي ؟ أتريدينه لي أبا ...أتركضين وراءه كي يعترف بي و يتصدق علي بلقبه ...أنا لا أريده، لا أريده يا قديسة الألم ؟
أماه أتسمعينني عبر هذا الحبل السري الذي يجمعني و إياك؟ هذا صوتي و صراخي يستحلفك بكل غال لديك كي لا تذهبي إلى لقاءه، هذا الذي يرمي بحيواناته المنوية حيثما اتفق...لا تذهبين إليه كي يحقنك جرعات من كذبه المعسول و وعوده الكاذبة ...أرجوك .
أصحيح ما سمعتك تقولينه قبل قليل لجدتي أماه؟ سأرى الوجود بعد بضعة أسابيع؟ آه كم أنا سعيد بذلك ...جدتي تنتظرني بفارغ الصبر، جدي ملأ غرفتنا لعبا و ملابس زاهية الألوان و أصدقاؤك في العمل زينوا جدران الغرفة بكل الرسوم المرحة، كلهم ينتظرونني و يرغبون بوجودي أما هو فلا ، سمعته يقول أنه يخشى الفضيحة وأنه لا يريد أن يعرف عنك شيئا، أو أنه اكتشف حبه و رغبته في الإخلاص لزوجته...أرأيت عهرا أكثر من هذا أمي !!! لم يسألك عن مصيرك و لم يفكر في سمعتك ، أنت يا مقلتي و مهجتي، أنت يا "جِينِفِرْ"؟
كل ما أذكره عنه الآن أنه كان يقول لك أنه لا يريد أن يعرف عنك شيئا بعد، بهذا البلد الذي يسمونه إيطاليا...و أنه من المستحسن لك أن ترحلي عنه...أحقا أنت إيطالية أمي ؟ و ما هذه الإيطاليا يا ماما، حدثيني عنها؟ كيف يخشى ذاك الحيوان المنوي على نفسه و سمعته في بلد يقال عنه بلد الحرية و الديمقراطية؟ كيف تجرين وراءه تشحذين منه لقبا لي؟ أم أن للديمقراطية و الأخلاق أناس من عجينة أخرى ، أناس معجونون بالمال و الجاه ، بالبذخ و الفسق أما أنت يا ابنة الشعب فعليك الكدح و الويل ثم الويل لك إن زلت قدماك ...مسكينة أنت يا أمي، يا صليبا موشوما بالدم و الألم فوق جبين حضارة الخزي و العار.
أين أنت ذاهبة الآن يا "جِينِفِرْ"؟ و ما هذا المكان الوارف الأشجار...أين تقودك قدماك هكذا في عجل ...مهلا أماه ...توقفي... دقات قلبك المتسارعة أسمعها كدقات أجراس الكنيسة في يوم قيامة المسيح ...و دماؤك الملتهبة تشوش الرؤى أمام عيني روحي أيتها العذراء المغدورة ...آه أخيرا فهمت، ذاهبة للقاءه ... و أنت هنا فوق هذا المقعد الحجري تنتظرين قدومه تحت ظل شجرة الكالبتوس، لم لم تسمعي ندائي؟ أم تراك تريدينني أن أجر هذا الحبل السري كي تنتبهين لصوتي؟ آآآآه إنه قادم...لا تصافحيه أرجوك...لا تسمعي أسطوانته المشروخة من جديد ...إيه، أنت يا فقاعة من هواء ...ابتعد عنها، لاتعذبها و لا تجرحها بكلماتك الساقطة، أتسمعني؟ أشفق على قلبها الكسير و ارحم ضعفها ...ما الذي تقوم به الآن؟ لم تمد يديك إلى رقبتها؟ آآآآه ... إنك تخنقها ...توقف لا تقتل نبع الحياة بداخلي ...لا تسقطني و إياها أرضا ...توقف... و ما هذه الحفرة التي حفرتها لنا ؟ و ما هذا الضباب الذي يكسو جسدي الصغير؟ أمي أينك أمي ؟ آآآه أينك لا تغيبي عن وعيك و تتركيني و حيدا أنظر إلى ما يقوم به هذا المجرم ...انتبهي يا روح الروح ..عودي إلى وعيك و قومي من سقطتك، إنه يحفر لنا قبرا...انهضي ..أنا هنا بداخلك لم أمت ، ألم أقل لك لا تذهبي إلى لقاءه؟ ألم أقل لك أنه سافل و شرير ، خنقك و طرحك أرضا وسط هذه الغابة الموحشة...أتسمعينني أمي؟ ردي علي أرجوك؟
ـ نعم يا صغيري الحكيم، نعم ، أنا ماما "جِينِفِرْ" أسمعك و لكنني لا أستطيع حراكا ..أسمعك بروحي كما أنت تكلمني بروحك يا وليدي الذي لن يرى النور...و سمعت كل ما صرخت به منذ أن سقطت في أحشائي..يا روحا عاقلة و جسدا هشا طريا، أسمعك يا حبيبي و كل ما كنت أريده من هذا الوحش لقبا لك و لا شيء غير ذلك و لكن يبدو أن ما سنحصل عليه منه الآن هو مكان تحت هذه الأرض، رحم البؤساء و التعساء، اعذرني صغيري إذا لم استطع أن أمنحك شيئا في هذه الحياة سوى ظلمات فوق ظلمات، ظلمات رحمي و ظلمات هذا القبر المشترك الذي حفره لنا هذا الأرعن الحقير ...آآه يا ابني ...لا أستطيع الصراخ ...مازالت الحياة تذب بداخلي و لكني لا أستطيع شيئا تحت هذا الكم الهائل من التراب ...و أدنا ...و أدنا يا صغيري...و أنفي يستنشق تراب كل هذا القبرو يدفع به إلى رئتاي....
ـ أجل أمّاه، تصلني رائحة الأرض قوية من خلال أنفاسك ...و لكن لا تهتمي، لنا مليك اسمه المنتقم ...هو هاهنا، بجانبنا، ينتظرنا في موكب من الرحمة و الغفران و قريبا سنتحرر من وأده و تصعد روحانا إليه و لنترك التراب لأهل التراب و ظلمات القبر لمتجبري الأرض و فاسقيها...ترابا أتينا و ترابا عدنا .
أسماء غريب