لو كانت الروح توهب كما توهب الهدايا , لكنا عشنا جنبا ً إلى جنب مع أحبتا ولو كان باستطاعتنا أن نتبرع بأنصاف أعمارنا لمن نحب , لكنا تبرعنا , فعاشوا بنا وعشنا بهم ولكن يبدو أن الأمرأصعب بكثيرٍ من ذلك .
تجتمع الناس في منزل ٍ سادته السوداوية والغموض وعلت الآصوات فيه ونادت النسوة بأصواتهن الباكية وساروا في موكب ٍ مهيب جلل حاملين ذلك الجسد الذي سيوارى الثرى في آخر مرحلة ٍ من مراحله الدنيوية.الأرض هي أم البشر , نـُخلق منها ونعود إليها , هكذا هو القانون الذي لا مفر منه نعود إما مذنبين أو مظلومين , منقولين في نعوش ٍ معطرة إلى ذاك المستطيل الذي يحتضننا ثم المسير إلى الآخرة وأية آخرة تنتظر نفسا ً متعبة ً مثقلة ً بالهموم والذنوب . كم يحزنني أن آرى في ردهة الطبيب فتاتين صغيرتين بريئتين ذي عينين دامعتين الدمعة تلاحق الدمعة , ياللهول !! منظر ٌ فظيع لن أنساه ما حييت , وقفت مذهولا ً لما شاهدت فقال أحدهما بنبرة ٍ حزينة: ماتت أمهما , ياإلهي !!! مات الربيع قبل حلوله , فما تفعل الزهور غير البكاء , خرجتا في حالة انهيار كامل , لم تعد هناك في عينيهما رغبة ُ للبقاء على قيد الحياة .
ماتت الأم , مات الأمل , ماتت الغالية التي ما توانت قط ّ عن احتضان أولادها بدفءٍ وحنان , رحلت مخلفة فراغا ً لا يسده إلا الزمن والنسيان وسبحان الله الذي منح الإنسان نعمة النسيان رغم فداحة الموقف وعمق الجرح.
كنت أراقب الموقف عن كثب , لبرهة ٍ تعطل تفكيري ونسيت كل ماكان يحيط بي فإذ بإمرأة ٍ تصرخ على إحداهما ( يالله , انزلي شبكي شو صرلك ) . كانت تحثها على نزول الدرج بصمود ولكن أي صمود هذا الذي يثبّت قدميها نزلتا في حالة من الصدمة القاسية وكأنهما صفِعتا بصفعة ٍ مبرحة .
روا لي أحد الموجودين بأن هذه الأم الميتة هي أم لعشرة اولادٍ بما فيهم الفتاتين وأن والدهم إنسان بسيط يعمل بأجرته اليومية . هذا يعني بأن ثمانية أولاد سيبكون أيضا ً وسيفتقدون سبب وجودهم.
يارب !! أي موت ٍ هذا الذي يغيّب أما ً عن عشرة صغار ٍ أبرياء لم يختبروا المعاني بعد , نعم عرفوا جيدا ً الحياة , وعرفوا معنى الأم ولأنهم عرفوا الأم عرفوا الحياة , ولكنهم لم يعرفوا ما هو الموت الذي أخذ منهم حضنا ً حنوناً لا يعوضه شيء في الوجود. الموت كلمة لايعرفها إلا الذين لبسوا الأسود وخيّمت على وجوههم علامات الكآبة واليأس , صحيح أن الموت حقيقة ولكنها مرة كمرارة الحنظل .
هذه الكلمة لاتـُبكي فقط بل تـُفرح أيضا ً , فعندما يأخذ الموت ظالما ً , يفرح الآخرون ويهتفون باسم الله , سعداء بعدالة السماء التي لا تفرق بين أحدٍ , كائنا ً من كان , الكل متساوون عند الموت , فلا الغني يفر ولا الفقير , إنها حقيقة إلهية تساوي بين جميع البشر , متى ماانقضى الآجل وانتهى الامتحان , تكون الروح قد عادت إلى جوار ربها.
هناك في الباب فتاتان تبكيـــــــــــــان
تجلسان حينا ً وحينا ً تصرخـــــــــان
تسحبهما الآيادي وسط الجمـــــــــوع
وهما في القلب والوجدان مجروحتـان
حزن ُعميق يزحف في وجهيهمـــــــا
آنهار ٌ من الدم والدموع على الخدود تجريان
أين أمي ؟؟؟؟؟؟؟؟؟ أين أمي ؟؟؟؟؟؟؟؟
على شفاههما كلمتان تتوهـــــــــــــــان
ياللجرح البليغ الذي استوطـــــــــــــــن
فضاع الحب وضاع الحنـــــــــــــــــــان
صرخت إحداهن عليهما بجهيــــــــرها
ما خطبكما ؟ لمــــــــا لا تمشـــــــــــيان
ياإلهي !! أي كابوس ٍ حل ّ بهمـــــــــا
يارب !! أعنهما فما هما إلا زهرتان تحترقـان
رحلت أم ُ بين الستائر الخضــــــــــــــراء
وودعت ببيضاء إلى روض الجنــــــــان
في السماء كل الملائكة صلت لأجلهــــــا
وفي الأرض عينان لا بل دمعتين باكتيان
ما غيّر بكــــــــــــــاء ٌ مسيرة الآقــــــدار
المـــــــكتوب محتوم وما الحياة إلايومان
منقول