لقد حالفني الحظ في مواصلة الدفاع عن حقوقنا الملاحية المسلوبة, وكان لي شرف نشر ما كتبته في السابق عن الانكماشات التراجعية التقهقرية, التي خضعت لها سواحلنا, وتعرضت لها مياهنا الإقليمية, فلم ترق كتاباتي للمتواطئين مع المحتل الغاصب, ولا للاهثين خلف شراذم الطامعين بثرواتنا, فازددت عنادا واعتدادا وصلابة من ذي قبل, ووقفت لوحدي, صلت الجبين مرفوع الهامة فوق ما تبقى من مسطحاتنا المائية, وما زلت أقف وحيدا على ضفاف شط العرب, متحديا المخططات التآمرية الخبيثة بصدري العاري وقلبي الثابت على الحق, وكان لي الشرف أن يحاربني أصحاب الولاءات المهزوزة, ويهاجمني سماسرة الباطل الذين تسببوا في تأخير عقارب الزمن, وإهدار الوقت, فخسروا الدنيا والآخرة, وانتهى بهم المقام في مزابل التاريخ, فغرقوا في مستنقعات الخسة والنذالة, وذهبوا غير مأسوف عليهم إلى غير رجعة, وبهذه المناسبة اسمحوا لي نشر ما كتبته عام 2007 في صحيفة المنارة بعددها 414
عراق بلا سواحل
كاظم فنجان الحمامي
في القرنة, جنوب العراق, حيث اقتران دجلة بالفرات, غُرست شجرة آدم (ع) لتكون شاهدا على أصالة حضارتنا الراسخة في ذاكرة المجموعة الشمسية الكونية. وفي جنوب العراق, حيث هبط آدم سيد البشر (ع), وتعلم ركوب البحر, واستقر قرب الأهوار التي حملت اسم ( جنات عدن EDEN GARDEN ), ومن الكوفة, جنوب العراق, انطلق نوح (ع) بسفينته العملاقة, وجاب بها عباب الأمواج المتلاطمة, وواجه الرياح العاتية في بحار غطت قمم الجبال, وفي ( نينوى ) شمال العراق ركب يونس بن متي (ع) السفينة، فهاج بها الموج, وغاص في ظلمات البحر, فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ. وفي (أور UR), التي كانت حاضرة البحر, ولد إبراهيم (ع), ونشأ فيها, وانطلق منها في رحلته الأسطورية, وهنا دوّن جلجامش تفاصيل ملحمته الأسطورية, وأطلق صيحته المدوية التي أشعلت فتيل النهضة البحرية عند كل السلالات التي انطلقت من العراق نحو بحار الله الواسعة :
يا ملك شورباك . . . يا ابن أوبارو توتو.
أهدم بيتك وشيد زورقا
وهنا كتب نياركوس مذكراته البحرية, وهو يقود أسطول الإسكندر ذي القرنين, فسرد لنا تفاصيل رحلته من ميناء ( أور ) إلى مدينة خاراكس ( ميسان حاليا ), مرورا بجزيرة إيكاروس ( فيلكا ). وكان السومريون أول من تعلم ركوب البحر, ومارسوا التجارة البحرية, وانطلقوا من أريدو إلى الفضاءات البحرية المفتوحة, وعرف البابليون كيف يصنعون بأيديهم الوسيلة المناسبة لارتياد البحر, فنجحوا في مواجهة أهواله والتغلب عليها, ووصلوا إلى تخوم الصين في أقصى الشرق, والى رأس الرجاء الصالح في أقصى الجنوب, وبرغم سيادة العراق المطلقة على بحار وخلجان العالم باعتباره المهد الذي احتوى أقدم الحضارات الإنسانية ومنبعها الأصيل, وانحدرت منه معظم السلالات البشرية التي انتشرت على سطح كوكب الأرض , وبرغم كونه مركزا للدولة العربية, ومقرا للخلافة الإسلامية التي بسطت نفوذها على كل البحار والمحيطات من شمال اسبانيا إلى تخوم الصين, وبرغم كل هذا الإرث البحري العريق, يعد العراق حاليا من البلدان المتضررة ساحليا, حسب اتفاقية الأمم المتحدة لأعالي البحار, لامتلاكه ساحلا جغرافيا صغيرا, لا يتجاوز طوله (29) ميلا بحريا فقط , يبدأ من ( رأس البيشة ) وينتهي في أم قصر, ويشكل هذا الشريط الساحلي الصغير قاعدة لمثلث مقلوب, بينما تستحوذ إيران والكويت على رأسه وما تبقى من أضلاعه, الأمر الذي نجم عنه تكدس موانئنا في منطقة ضيقة. علما إن المسطحات البحرية التي يفترض أن تكون مشتركة بين العراق والكويت وإيران لم تخضع لحد الآن لأي اتفاقية موقعة بين الدول الثلاث حول استغلال الجرف القاري, أو المنطقة المتاخمة, أو المنطقة الاقتصادية الخالصة, إضافة لمناطق الصيد والتجارة البحرية, لما تمثله كل هذه العناوين من موارد لا تستنزف بسهولة.
اما الممرات الملاحية المؤدية إلى موانئنا عبر شط العرب, فقد أصبحت مشتركة مع إيران منذ عام 1975. بينما تحاول الكويت فرض هيمنتها المطلقة على خور عبد الله , والسيطرة على حركة السفن المتوجهة إلى مينائي أم قصر وخور الزبير منذ عام 1992, وسوف لن ينتهي المشوار عند هذا الوضع, فقد بات من المؤكد أن إيران أقدمت على تغيير اسم شط العرب إلى (اروند رود ), وزعمت في مذكرتها المرقمة 3944/ 0150 في 21/12/2002 أن مينائنا النفطي العميق ( خور العمية ) يقع ضمن مياهها الإقليمية. ونفذت الكويت مشروعا عملاقا لبناء ( ميناء بوبيان ) عند مقتربات ميناء أم قصر, وفي الوقت الذي تسعى فيه الدول المجاورة إلى توسيع رقعتها البحرية وبسط نفوذها البحري إلى ابعد مسافة ممكنة, لم يعد لسفن الصيد العراقية أي وجود قرب سواحلنا بعد أن حرمت من حصة الوقود, ما أدى إلى خسارة العراق لنفوذه البحري الذي يفترض أن يبسطه على مياهه بشتى الطرق ومهما كانت النتائج. إذ يفترض أن تشكل سيادتنا على المياه الإقليمية أولوية أولى لا يمكن التفريط بها. فالضرورات الجيوستراتيجية تملي على العراق أن تكون له إطلالة أمنية دائمة على الخليج, وتملي عليه أن يكون له عمقا استراتيجيا باتجاه البحر. أن مشكلة تضييق الخناق على مسطحاتنا البحرية, والانكماش التدريجي الاضطراري الذي تعرضت له حدودنا البحرية, ومشكلة حرماننا من أي نفوذ بحري على الخليج في المرحلة الراهنة, تعد من المشاكل التي لا تدعو إلى التفاؤل, بل أنها تبعث على الدهشة وتثير الاستغراب والاستياء.
هل من العدل أن تصبح اعرق وأقدم دولة في تاريخ كوكب الأرض بلا سواحل بحرية معتبرة ؟؟؟. وهل من العدل ان يتقوقع العراق في أقصى الركن الشمالي الغربي لحوض الخليج, ولا يملك من السواحل سوى بضعة أميال بحرية محصورة في تلك الزاوية البائسة, التي يطل منها العراق على رقعة صغيرة من المياه الرسوبية الضحلة ؟؟, وهل من العدل ان تنكمش ممراتنا الملاحية فتضيق بقيعانها المغطاة بتراكمات الكثبان الرملية, وتمتلئ بحطامات السفن الغارقة, وتختنق بالملوثات النفطية ؟؟.
من يصدق أن حصة البلد, الذي كان سيدا لكل بحار الدنيا, اختزلتها السياسة الخرقاء, وخنقتها في هذه الزاوية الضيقة؟؟. وأي عدالة دولية هذه التي تحرم مهد الحضارات البشرية من موارده البحرية. بعد أن كان الخليج العربي كله يسمى خليج البصرة ؟؟. أننا إزاء هذا الموقف الخطير الذي يسئ إلى سيادتنا البحرية الوطنية نجد أنفسنا في أمس الحاجة إلى اتخاذ خطوات عاجلة ومدروسة, والانطلاق في كل الاتجاهات المتاحة نحو استرداد أمجادنا البحرية وحقوقه الدولية المغتصبة.