[SIZE=4]السلام عليكم اخوة الاسلام[/size]
النفس تبع للقلب ، فإذا زكا القلب وكبر ؛ زكت النفس وكبرت ، وصارت ذات مكانه وحجم وقدر كبير لا نسبة للبدن بجوارها ، إذ لا قيمة لهذا البدن الصغير المحدود إلا بحمله للنفس الكبيرة الطاهرة الزاكية – أما إذا حُرم القلب من ذلك بل صغر ومرض فإن النفس تندس وتختفي في البدن وتنقمع وتنقبر فلا يكون لها أثر إلا علي مستوي شهوات البدن ، كما قال تعالي:" قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا" وهذا النوع صاحبه كالحيوان ؛ بل أضل ، بخلاف النوع الأول الذين يتخذ الله منهم الشهداء والأحبة واتخذ الله إبراهيم خليلا ، واتخذ محمدا خليلا ، وهذا صحابي أنصاري جليل هو سعد بن معاذ رضي الله عنه ، أهتز العرش لموته ؛ فرحاً بقدومه ، والعرش موصوف في القرآن بأنه العظيم والكريم والمجيد وهو أعظم المخلوقات وأنورها وأمجدها ، فإذا كان الكرسي وسع السماوات والأرض فإنه بالنسبة للعرش كحلقة في فلاه ومع ذلك أهتز لموت سعد الذي عاش في الإسلام ست سنوات فقط ؛ ذلك لأنه تزكي والسماء والأرض تبكيان علي الصالحين " موضع السجود وموضع صعود العمل " وفي النهاية يسكن في جوار رب العالمين فِي " جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ" فأين هذا النوع من النوع الثاني الذي لم يستعمل قلبه ونفسه إلا في شهوات بدنه كأقل من الحيوان .
وقال تعالي :" قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى " بمعني : قد أفلح من غذي قلبه بالغذاء النافع بإتباع الرسول صلي الله عليه وسلم ، فطهره من ذنوبه وزكاه بذكر الله والصلاة ، وقال تعالي :" اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى ..." يعني : هل لك إلي أن تطهر قلبك وتنميه لتحيا به حياة طيبة ؟ وكذلك قوله تعالي :" وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى " .
وإنفاق المال في سبيل الله تعالي ومراضية ، لهو من أعظم الأعمال المغذية والمزكية للقلب ، قال تعالي :" الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى " وقال تعالي :" خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا ..." فالصدقة تطهر القلب من آثار الذنوب وتغذيها فتزكو ، بل هي السقيا لكل ما ينزرع في القلب من الأعمال ، ولهذا المعني تسمي الصدقة الواجبة في المال : زكاة : أي نماء وزيادة واتساع في القلب مع طهارته ، ثم نماء في المال فضلاً من الله .
الإنسان في الدنيا له نوعان من الحياة :
(1) حياة البدن المعروفة والتي يشترك في جنسها الإنسان والحيوان والطير والوحش وغير ذلك ، وتعتمد هذه الحياة " الروح والبدن " علي جريان الدم في العروق بالأغذية وغير ذلك ، يدفعها قلب البدن " الأذين الأيمن ، والأيسر ، والبطين الأيمن ، والأيسر"وهو المضغة المعروفة التي إذا صلحت صلح لها الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله وهي ملكة الأعضاء في الإنسان وغيره .
(2) حياة الروح والقلب ، قال تعالي :" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ ..." يعني يحييكم الحياة الطيبة والتي لا تكون إلا بتغذية القلب ، وتزكيته بعبادة الله ، والتي خلق الله من أجلها ، فحياة القلب بالاستجابة لله وللرسول ، وبالتالي يكون موته بفقد ذلك . وقال تعالي :" إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ * لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا ... " فالانتفاع بالقرآن والإنذار به إنما يحصل لمن كان حي القلب ، وكذلك جعل سبحانه وحيه الذي يلقيه إلي الأنبياء روحاً تحيا به القلوب .وقال تعالي :" يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ " وقال :" وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا " ولذلك شبه سبحانه من لا يستجيب لرسوله بأصحاب القبور ، لأن قلوبهم قد ماتت فقُبرت في أبدانهم حيث لا وظيفة لها ولا دور إلا في خدمة شهوات الأبدان ، قال تعالي :" إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاء وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ " . وهذا القلب يختلف تماماً عن قلب الجسد ، ولكنه القلب المتعلق بالروح ، وهو غيب لا نعلم عنه شيئاً إلا بالخبر الصادق عن الله ورسوله صلي الله عليه وسلم في القرآن والسنة ، قال تعالي :" إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ... " ولا يصح أن يكون القلب المذكور في الآية هو قلب البدن أي : المضغة المعروفة ، لأن كل الناس لهم هذه المضغة وأكثرهم كفار وفسقة لا يتذكرون ، وإنما يصح فقط أن يكون القلب المذكور هو القلب المتعلق بالروح . وأيضاً الشهداء معروف عنهم أنهم أحياء عند ربهم يُرزقون حيث تكون أرواحهم وقلوبهم في حواصل طير خضر ترعي في الجنة ثم تأوي إلي قناديل معلقة بالعرش ، في حين أن أبدانهم قد بُليت بما فيها قلوبها . والأدلة علي الفروق بين قلب الروح وقلب البدن كثيرة ، وسنذكر بعض الخصائص الهامة لقلب الروح كما يلي :
(أ) مكانه في الصدور كما قال تعالي :" فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَْبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ" يعني في نفس منطقة الجسد .
(ب) يتضمن معني الفؤاد واللب والفطرة والعقل والنهي والحجره ؛ وهو آلة التفكر والتذكر والتصور والنية والقصد والإرادة والمحبة والخوف والخشية والبغض والكراهه والصبر والعجلة والرضي والسخط والانقياد والكبر والكفر والشكر وغير ذلك مما يدور في باطن الإنسان .
(ج) يُقاس القلب علي البدن من وجوه كثيرة منها حياته وموته ومرضه وشفاؤه ، منها حاجة البدن وضرورته إلي الغذاء النافع ويتألم بالجوع والعطش بحسب شدته ، حتى إذا فقد الغذاء والشراب تماماً اضطر صاحبه إلي الإغتذاء والسقيا بالأغذية والأشربة الفاسدة ، ولو كان في ذلك حتفه وموته ، والرئة لا بد لها من التنفس بالأكسوجين فإن لم تجده تنفست بما حولها ضرورة ولو كانت بالغاز السام ، فكذلك القلب يحتاج ضرورة بالغة إلي الغذاء النافع " الوحي المُنزل والإستجابه له " ويتألم بفقده إلي أن يضطر إلي الغذاء الفاسد " عبادة الهوي والشيطان " الذي يتألم به جداً حتى يموت به ويقبرنه في البدن . ولذلك فإن حاجة الخلق إلي ربهم في عبادتهم إياه ، ومحبته وتأليههم له أشد وأعظم بكثير من حاجتهم إليه في خلقه لهم ورزقه لهم وستر عوراتهم وتأمين روعاتهم . وليس في الكائنات شيء غير الله عز وجل يسكن القلب إليه ويطمئن بذكره ، ويأنس به ، ويتنعم بالتوجه إليه .
(د) قد يموت القلب وصاحبه لا يشعر بموته ، وعلامة ذلك أنه لا تؤلمه جراحات القبائح ، ولا يوجعه جهله بالحق ، وعقائده الباطلة ، فإن القلب إذا كان فيه حياة تألم . روي مسلم عَنْ حُذَيْفَةَ أن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال :" تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلاَّ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ "
(ر) الغذاء النافع للقلب هو العبادة الصحيحة يعني : الأيمان والقرآن والعمل به ، فما من عمل صالح يعمله الإنسان بقلبه أو بلسانه أو بجوارحه إلا ويتغذي به القلب وينمو ويتسع ويكبر ويزكو ، ولا تتوقف زكاته حتى يتوقف العمل الصالح ، وهذه عجيبة في الخلق يختص بها هذا القلب ، بخلاف البدن الذي ينمو مع الغذاء والتَّرَيُّض ، ولكن إلي حدود لا ينمو بعدها ، أما الغذاء الفاسد فهو العبادة للشيطان وطاعته ، كالكفر والفسوق والعصيان ، فالقلب لا يزكو بذلك بل علي العكس يمرض وينكمش ويختفي ويندس فلا يظهر له أثر إلا في شهوات بدنه كالحيوان فمعيشة هذا النوع من الناس هي المعيشة الضنك ، قال تعالي :" وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا ... " بخلاف النوع الأول فله من الحياة الطيبة بقدر زكاة قلبه ، يعني علي قدر الأغذية الصالحة التي يتناولها ، قال تعالي :" مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ " حيث أن قلبه يذوق طعم الأيمان ويجد حلاوته ويسكن ويطمئن للحق وينتهج ويلتذ لأنه يحقق ما خُلق من أجله من الاتصال بالله وعبادته ، وهكذا خلق الله القلوب ولكن أكثر الناس في غفلة معرضون فلا يعلمون شيئاً عن ذلك القلب ولا عن غذائه ولا عن لذاته وآلامه .
(ى) صاحب المعيشة الضنك تنعدم عنده السكينة والطمأنينة ولا يشم رائحة الثقة بالله ، والاعتماد عليه ، والتفويض إليه ، والرضا به ، وبقضائه ؛ بل لا يجد إلا القلق ، والريب ، والجزع ، والتسخط ، وعدم الرضا ، ويأتيه الغم والهم ألواناً ، وتتلاحق عليه الآلام النفسية التي لا يعرف لها مصدراً ولا علاجاً ، وأخطرها استغاثة وصراخ القلب طالباً للغذاء النافع وشاكياً من الغذاء الفاسد " هكذا خُلق القلب " ولكن صاحبه لا يعرف شيئاً عن ذلك ، بل قلبه مغمور بشهوات البدن ، غافل بذلك عما خُلق من أجله ، ولكنه يجد الآلام التي لا توقف لها ولا نهاية ، فيحاول أن ينساها فلا يجد سبيلاً لذلك إلا بما يزيل به عقله كالخمر أو الرقص أو الموسيقي الصاخبة جداً أو الاستغراق الشديد في الشهوات أو الانهماك المرهق المتواصل في الأشغال ، كل ذلك حتى لا يفيق ليفكر في هذه الآلام التي يجدها ولا يعرف لها مصدراً ولا علاجاً . ألا فليحمد المؤمن ربه علي نعمة الإسلام وهدايته به للحياة الطيبة في الدنيا والآخرة .