في فترة سياسية بالغة التوتر شهدتها البلاد العراقية قبل أزيد من ستة عقود، ولدت بائية تنويرية مطولة شاعت بعنوان "أنا حتفهم"، تيمناً بمطلع احد ابياتها الذي أوجز فيه الجواهري تصديه لسياسات وممارسات بعض حكام وقادة العهد الملكي في العراق عام 1949 حين قال فيهم: "أنا حتفهم ألج البيوت عليهم، أغري الوليد بشتمهم والحاجبا"... وقد يكون ذلك بيت القصيد حقاً، في القصيدة التي تتجاوز المئة والثلاثين بيتاً، ومما جاء فيها:
إيهٍ "عميدَ الدار" ! شكوى صاحبٍ ٍ طَفَحَتْ لواعجُهُ فناجى صاحبا
خُبِّرْتُ أنَّكَ لستَ تبرحُ سائلاً عنّي ، تُناشدُ ذاهباً ، أو آيِبا
وتقولُ كيفَ يَظَلُّ "نجم" ساطعٌ ملءُ العيونِ ، عن المحافل غائبا
الآنَ أُنبيكَ اليقينَ كما جلا وضَحُ "الصَّباح" عن العيون غياهبا
فلقد سَكَتُّ مخاطِباً إذ لم أجِد مَن يستحقُّ صَدى الشكاةِ مُخاطَبا
أنبيك عن شر الطغام مفاجراً ومفاخراً ومساعيا ومكاسبا
والشاربين دم الشباب لأنه ، لو نال من دمهم لكان الشاربا
والحاقدين على البلاد لأنها حقرتهم حقر السليب السالبا
ولأنها ابداً تدوس أفاعياً ، منهم ، تمجُ سمومها ، وعقاربا
ومع ان القصيدة تتحدث بذاتها عن مواقف محددة ٍ، وتؤكد حقائق لا تحتاج لمزيد شرح أو تفسير، إلا ان الديوان قدم لها، وعن ظروف نظمها بشكل مفصّل... وكذلك عن تداعياتها العديدة، ومن بينها احتجاز الجواهري في مديرية التحقيقات الجنائية ببغداد لمدة شهر للتحقيق معه، بسبب مضامين القصيدة وحدتها...
وفي مقطع لاحق، يسرد الشاعر كيف حاول المسؤولون الأرفع في الحكم آنذاك، مساومته بالمناصب، ليكفَّ عنهم، ومن بينهم، بل وفي مقدمتهم، الأمير عبد الاله الوصيّ على عرش البلاد، والذي يسميه الجواهري "النديم" تورية ً في القصيدة:
حشَدوا عليَّ المُغرياتِ مُسيلةً صغراً لُعابُ الأرذلينَ رغائبا
بالكاس يقرعها "نديم" مالئاً بالوعد منها الحافتين ، وقاطبا
وبتلكم الخلوات تنسخ عندها ، تلع الرقاب من الضباء ثعالبا
وبأن اروح ضحى وزيراً مثلما أصبحت عن ليل بأمر نائبا
ظنّاً بأنَّ يدي تُمَدُّ لتشتري سقطَ المتَّاع ، وأنْ أبيعَ مواهبا
وبأنْ يروحَ وراءَ ظهريَ موطنٌ أسمنتُ نحراً عندَه وترائبا
... وحينما يئس أولئك الحكام المساومون، وعرفوا أن لا جدوى لجهودهم في زحزحة شاعر ومنور متمرس، ثابت الرؤى والانحياز، لمواقفه، بدأوا مرحلة التجاوز والمضايقة واللؤم، وعند ذلك راحوا يتلقون الجزاء:
حتى إذا عجَموا قناةً مُرَّةً شوكاءَ ، تُدمي من أتاها حاطبا
واستيأسُوا منها ، ومن مُتخشِّبٍ عَنَتاً كصِلِّ الرّملِ يَنْفُخ غاضبا
حُرٍّ يُحاسِبُ نفسَهُ أنْ تَرْعَوي حتى يروحَ لِمنْ سواه مُحاسِبا
حتى إذا الجُنْديُّ شدَّ حِزامَهُ ورأى الفضيلةَ أنْ يظَلَّ مُحاربا
حَشدوا عليه الجُوعَ يُنْشِبُ نابَهُ في جلدِ "أرقطَ" لا يُبالي ناشبا !
وعلى شُبولِ اللَّيثِ خرقُ نعالِهم ! أزكى من المُترهِّلينَ حقائبا
يتبجَّحُونَ بأنَّ مَوجاً طاغياً سَدُّوا عليهِ مَنافذاً ومَساربا
كّذِبوا فملءُ فمِ الزّمان قصائدي أبداً تجوبُ مَشارقاً ومَغاربا
تستَلُّ من أظفارِهم وتحطُّ من أقدارهِمْ ، وتثلُّ مجداً كاذبا
أنا حتفُهم ألجُ البيوتَ عليهمُ أُغري الوليدّ بشتمهمْ والحاجبا
ترى من ربح المنازلة في الأخير، وأين صار أولئك اليوم، وأين هو الجواهري... ذلك ما أجاب، ويجيب عليه التأريخ، الشاهد العدول...
ما راق لي
م / ن