بين البصرتين
البصرة المغربية والبصرة العراقية
كاظم فنجان الحمامي
البصرتان : اسم جميل, له وقع خاص في قلوب العرب. لأنه يجمع البصرة مع الكوفة في كلمة واحدة. وتُجمع البصرة أيضا مع الكوفة بـ (العراقين) أو (المصرين). إذ أن كلا من البصرة والكوفة, كانتا تعتبران من أعظم أمصار العالم الإسلامي من دون منازع. .
وسنكتشف هنا, ان للبصرة العراقية شقيقة أخرى, أصغر منها سنا, وتحمل الملامح العربية نفسها. بل انهن فسيلتان متفرعتان من نخلة واحدة. أو حديقتان مزدانتان في بستان واحد, وهو الوطن العربي الكبير الممتد من الخليج إلى المحيط. .
نشأت البصرة الصغرى في رحم المغرب العربي بين عام 796 م (فترة حكم الرشيد), وعام 803 م (فترة حكم إدريس الثاني). وارتبطت بشقيقتها الكبرى بعلاقات وروابط تجارية وقبلية وعقائدية حميمة.
اما البصرة العراقية. فكانت نشأتها في رحم الحضارة السومرية منذ قديم الزمان. لكنها سجلت في وثائق فترة الفتح الإسلامي في العام 635 م . وسميت بهذا الاسم لغلظة تربتها وشدتها. فالبصرة في اللغة هي الأرض الغليظة, التي فيها حجارة صلبة قد تقطع حوافر الدواب. وكانت جذورها القديمة ضاربة في عمق التاريخ. فهي في الآرامية (بصرياتا), وتعني الأرض ذات الحصى. ولهذا الاسم معان أخرى في الكلدانية. فكلمة (بصر) تعني الجزر الضعيف. و(بصريا) تعني القنوات والجداول المائية. و(باصرا) تعني مجموعة أكواخ القصب والبردي. وجميع مدلولات هذه المفردات اللغوية تتوافق وتنسجم تماما مع واقع وظروف البيئة البصرية في الماضي والحاضر. .
وللبصرة العراقية أسماء أخرى. فقد كانت تدعى (الخريبة) قبل الفتح الإسلامي. وبعد بنائها سميت باسماء كثيرة, منها : أم العراق, وخزانة العرب, وعين الدنيا, وذات الوشامين, والبصرة العظمى, والبصرة الزاهرة, والفيحاء, وقبة العلم, ومدينة السندباد, وبندقية الشرق. كما تدعى (الرعناء) وذلك لتقلب الجو فيها في اليوم الواحد. .
اما البصرة المغربية فتدعى (الحمراء), و(البصرة الكتان). وهي متوسطة المساحة. وتحيط بها أسوار عالية, مدعمة بأبراج شبه دائرية. ولها عشرة أبواب. وتقع على طريق سوق الأربعاء بإتجاه (وزان). وتبعد عن مدينة (القصر الكبير) بحوالي 20 كيلومترا نحو الجنوب, وعن المحيط الأطلسي بحوالي 40 كيلومترا. وكانت مركزا لإقامة أمراء الأدارسة. ثم اصبحت عاصمة للدولة الادريسية. وتوسعت حتى امتدت من الريف إلى (غمارة). وتعرضت اسوارها للهجوم والتدمير على يد (أبو الفتوح يوسف زيري) عام 979 م . لكنها انتعشت زراعيا وصناعيا بعد ذلك الهجوم. حتى تحولت إلى مركز تجاري واقتصادي مزدهر في القرن الحادي عشر الميلادي, واشتهرت بزراعة القطن, والصناعة, وإنتاج الكتان. .
ثم أخذت تفقد اهميتها شيئا فشيئا. وتدهورت أحوالها في القرون اللاحقة . ونشب فيها الخراب, وزال أثرها تدريجيا. .
ومازالت ذاكرة التاريخ تحتفظ بين طياتها بمشاهد رائعة عن تلك العلاقات الحميمة, التي كانت تربط بلاد الرافدين بالمغرب. وربما يقودنا البحث والتنقيب في الصفحات, التي دفنها غبار النسيان, إلى اكتشاف روابط قديمة تعود في تاريخها إلى ما قبل ولادة البصرتين. فقد كان ميناء (أبولوجوس), أي (الأبلة), الواقع على شاطئ نهر دجلة العوراء (شط العرب), يعد من أهم جسور العالم القديم. وحلقة لإلتقاء خطوط التجارة البرية والبحرية القادمة من آسيا وأوربا وأفريقيا. تقابله في المغرب مدينة (الأبلة), التي ينتمي اليها (أبو عبد الله الآبلي) شيخ ابن خلدون. وهذه اشارة أكيدة على عمق الروابط بين المشرق والمغرب. .
ومن المرجح ان تسمية مدينة البصرة المغربية تعود في أصلها إلى جذور تأسيس دولة الأدارسة في المغرب العربي. فقد كانت البصرة العراقية منطلقا لثورة إبراهيم النفس الزكية, الذي خلف أخاه محمد النفس الزكية في ثورته ضد العبّاسيين. ولقي إبراهيم مصرعه في العراق, وتشتت قواته. وفر إخوته (يحيى وإدريس) إلى أنحاء عديدة, وظلّوا يحضّرون للثورة حتى عهد هارون الرشيد. ففر يحيى إلى بلاد الديلم في فارس. وأختار أخوه إدريس الفرار إلى المغرب, ليؤسس دولة الأدارسة في المدينة, التي اطلق عليها اسم البصرة, كونها تمثل البركان, الذي انطلقت منه الشرارة الأولى للثورة. وقد لاقت دعوة إدريس في المغرب تجاوبا سريعا, وواسع النطاق في صفوف قبائل البربر . واستقر حكمه, وأرسى قواعد دولته العلوية الفتية. ونجح في إقامة ملكا وطيدا دعامته العدل, وإنصاف الناس. وهي أول دولة إنفصالية عن كيان الدولة العباسية. .
وكانت للمغرب روابط اقتصادية قوية بالبصرة الفيحاء. فقد لعب ميناء الأبلة دورا تجاريا هاما في القرون الغابرة. وكانت تصل إليه المنتجات من الصين, والهند, وجزر الملايو. وعن طريقه تصل إلى الشام وفارس والجزيرة العربية ومصر. ومن ثم إلى المغرب العربي فأوربا. وتصل إليه البضائع الأوربية, وبضائع المغرب العربي عبر الطريق نفسه. ثم تشحن منه إلى الهند والصين عن طريق البحر. وساهم موقعه الفريد في ظهور مدن وموانئ تجارية شمال افريقيا. وأصبحت التجارة عماد الاقتصاد في ذلك الزمان. وما كان البرتغاليون يعانون منه. هو ان البضائع, التي تصل إليهم تكون غالية الأثمان, لمرورها بإحتكارات عدة. إضافة إلى شحة البضائع الواردة إليهم من المشرق عن طريق المغرب الإسلامي. الأمر الذي دفعهم لإختصار الطريق, والبحث عن مسلك تجاري مباشر, فعبئوا السفن الحربية بالجنود والعتاد, بهدف السيطرة على النشاطات التجارية في حوض الخليج العربي. .
وربما تركت عمليات التبادل التجاري بين البصرة الفيحاء وبلدان المغرب الإسلامي, في القرن الثالث الهجري, بصماتها على المدينة الأطلسية, التي حملت اسم البصرة. فقد كانت (سجلماسة), عاصمة الصحراء, مركزا للقوافل التجارية بين البصرة العراقية والبصرة المغربية. ويؤكد المؤرخون على إنتشار شبكة الخطوط التجارية البرية والبحرية, في تلك الفترة, بين ميناء الأبلة الخليجي والمغرب الإسلامي. وبالتالي ازدهار عمران المدن المرافق للنمو الإقتصادي.
وتوطّدت مقومات التبادل التجاري آنذاك بين المشرق والمغرب بوحدة العملة. إذ كان التجار يعتمدون العملة الذهبية (وهي الدينار), والعملة الفضية (وهي الدرهم). واعتمدوا إجراءات مالية موحدة في تحرير الوصولات المالية. فأصبح العالم الإسلامي يشكل وحدة إقتصادية وعمرانية.
وهنالك أمثلة أخرى, قريبة العهد, تؤكد على قوة تلك الروابط, وتظهر رغبة الشركات البحرية الأوربية في تفتيتها, من خلال تعطيل خطوط التبادل التجاري بين العراق والمغرب الإسلامي. فقد نجح (فرانك كلارك سترك Frank Clark Strick) عام 1889 في تأسيس شركة (Anglo-Algerian Steamship Co) شمال أفريقيا. ولما اتسعت نشاطاته التجارية. اكتشف أن ميناء البصرة هو المحور الرئيس في التعاملات التجارية بين آسيا واوربا آنذاك. فسارع الى مغادرة المغرب والجزائر, والتوجه مباشرة الى البصرة في العراق ليؤسس في عام 1892 شركة Anglo-Arabian and Steamship Co Ltd التي اصبحت فيما بعد نواة لتأسيس شركة (STRICK LINE) ذات الشهرة الملاحية الواسعة. .
وهناك رأي آخر يقول : ان القبائل العربية اعتادت على الرحيل والإنتقال والهجرة. لأسباب وظروف عديدة. وشهدت الصحراء الفاصلة بين المشرق والمغرب هجرات, وهجرات عكسية.
ولو أمعنا النظر في أسماء القبائل المغربية لوجدنا إنها مطابقة تماما للكثير من القبائل الموجودة في المشرق العربي. بل ان بعض العوائل التي هاجرت من العراق, واستقرت في المغرب مازالت تتفاخر بألقابها المرتبطة بالعراق. مثل : لقب (العراقي), و(البغدادي). وهكذا بالنسبة للعوائل المغربية التي هاجرت إلى المشرق, والتي مازالت تصر على التباهي بلقب (المغربي), و(الإدريسي). .
ومن الملفت للنظر. ان معظم الفرق والمذاهب العقائدية والفقهية, التي تأسست في البصرة, وجدت لها ملاذا ومستقرا وانتشارا في المغرب الإسلامي. فانتقل الخوارج, ومن ثم المعتزلة إلى المغرب الإسلامي. وانتقلت (الاباضية) من البصرة إلى المغرب بواسطة (سلمة بن سعد). وانتقلت (الصفرية) إلى هناك بواسطة (عكرمة مولى ابن عبّاس). فهبت على المغرب رياح الصراعات المذهبية, التي انطلقت من ضفاف شط العرب, واستقر بها النوى هناك. ومازالت اسماء انهار شط العرب الفرعية تحمل بصمات (واصل ابن عطاء الغزّال) في (نهر الواصلية), وبصمات (زياد ابن الأصفر) في (نهر الزيادية).
والعجيب ان تناقض هذه التكتلات المذهبية, والسياسية اسهم في التطور العمراني, والإزدهار الإقتصادي. لأنها كرست اهتماماتها في توفير الأمن للمراكز التجارية. والاستفادة منها في تعزيز قوتها السياسية, وتمويل مشاريعها التوسعية. فتحوّل المغرب الإسلامي من طور العمران البدوي التقليدي إلى مرحلة العمران الحضري المتجدد. ومن المحتمل ان تكون البصرة المغربية من إفرازات تلك التطورات العمرانية. .
وهناك من يرى ان البصريين, الذين شاركوا في طليعة الفتوحات الإسلامية, وكانت لهم مكانة مرموقة بين المجاهدين, هم الذين أطلقوا اسم (البصرة) على تلك المدينة المغربية. وأطلقوا الاسم نفسه على مدينة أخرى في شبه القارة الهندية. تيمنا بمدينتهم التي فارقوها, وشغفوا بعشقها.
ولا عجب في ذلك. فالبصرة تفرض محبتها على أهلها, وعلى الذين استوطنوا فيها, أو تعلموا فيها, أو تعاملوا معها.. وهناك الكثير من اسماء المدن والمواقع العربية الجديدة, التي تتطابق في مسمياتها مع المسميات القديمة,على الرغم من تباعد المسافات بينها. فـ (الجبل الأخضر) في المغرب الإسلامي, يقابله (الجبل الأخضر) على ساحل سلطنة عمان. ومدينة (الفاو) الواقعة على ضفاف شط العرب, تقابلها مدينة (الفاو) وسط صحراء الجزيرة العربية. وتناظرها مدينة (الفاو) القبطية في مصر. ونرى من المفيد الإشارة إلى مدينة (طرابلس) في لبنان, وشقيقتها (طرابلس) في ليبيا.
وفي أمريكا مدن كثيرة تحمل أسماء عربية. نذكر منها : مدينة (بيت لحم) في ولاية بنسلفانيا, ويعود تأسيسها إلى عام 1741. ومدينة (فلسطين) في ولاية إلينوي. ومدينة (لبنان) في ولاية نيوهامشر, ويعود تأسيسها الى عام 1761. ومدينة (القاهرة) في ولاية إلينوي, والتي تأسست عام 1837.
وفي الولايات المتحدة الأمريكية ثلاث مدن مختلفة تحمل أسم (الجزائر), وهي موزعة على ولاية مشيغان, وولاية أوهايو, وولاية واشنطن. وتعد مدينة (الإسكندرية) من أهم المدن الأمريكية, التي تحمل أسما عربيا, وتقع في ولاية فرجينيا. .
لذا فإن هذا التشابه في اسماء المدن والمواقع لم يأت عن طريق الصدفة. ولابد أن تكون له أسبابه, ومبرراته. وأحيانا يعزى هذا التشابه إلى نشاطات دينية, أو علمية, أو سياسية, أو تجارية. ولابد أن يكون أحدها أصل الإنتشار. وربما يكون عشق المهاجرين للمدينة, التي نشأوا فيها. هو الذي دفعهم إلى نقل اسمها ومعالمها معهم. وقد اجتمعت هذه الأسباب كلها في البصرة المغربية, فحملت اسم البصرة العراقية, وتميزت به.
ختاما نقول ان وطنا ترسم حدوده البصرة العظمى, قبة العلم, وأم العراق, وخزانة العرب, وعين الدنيا, وتحتضنه من اقصى شرقه إلى أقصى غربه, لجدير أن لا يفرط به أحد. .