كربلاء ميدان التحرير
مقالة نشرتها وكالة أنباء المستقبل العراقية للصحافة والنشر (ومع)
كاظم فنجان الحمامي
مرة أخرى تتجدد المواجهات الدامية بين الحق والباطل, وتتفجر المواقف بين الأخيار والأشرار, ومرة أخرى يحتدم الصراع بين الفئة الباغية والفئات المسحوقة, وتتأزم الأمور بين الأقلية المتسلطة والأكثرية المحرومة المغيبة, ومثل كل مرة تستنفر القوى المستبدة قدراتها الخبيثة, وتوظف مكرها ودهائها في تشويه صورة المجاميع البشرية الثائرة بوجه الظلم, ومثل كل مرة تطلق السلطات الحاكمة كلابها المسعورة في كل الاتجاهات, وتستعين بزبانيتها وأزلامها وأقزامها, لقلب الحقائق, وتزييف وجه العدالة الإنسانية, وتستعين بأرباب السوابق من المجرمين والقتلة في الدفاع عن عرش الحاكم الجائر, وتحرضهم على الإمعان في انتهاك كرامة الناس وإثارة الفوضى, وتخريب المنشآت العامة, والقيام بحملات النهب والسلب, ومن ثم تلصق الاتهامات بالمتظاهرين,
ومرة أخرى يخرج ميكافيلي من أنقاض العالم السفلي المتعفن, ويطل بوجهه القبيح من خلف أجنحة قصر عابدين وأسواره العالية, ويرفع عقيرته بالنباح والصياح, مخاطبا الجماهير المحتشدة في ميدان التحرير: ألا أن الغاية تبرر الوسيلة, وأن لا قواعد في السيرك السياسي, وكل أمر مباح, وأن حماية العرش والذود عن مصالح النظام, والدفاع عن ممتلكاته تستدعي التخلي عن القيم والمبادئ, وتستدعي امتطاء موجة العنف حصانا جامحا في مواجهة المعتصمين في ميدان التحرير, وتستدعي تضييق الخناق عليهم وتكميم أفواههم, ومحاصرتهم بحشود من الخنازير والضباع والبلطجية المتسلحين بالسيوف والخناجر والهراوات, تساندهم أفواج وأفواج من عناصر البوليس السري المتنكرين بالملابس المدنية, وأفواج أخرى من كتائب فرسان الخيالة, على ظهور الخيول والبغال والإبل, فيشتركوا جميعا بشن غارات استفزازية سافرة لتفريق التجمعات البشرية المتحصنة في ميدان التحرير, وتندفع بغال القائد (الضرورة) بوحشيتها المعهودة بين خطوطهم الدفاعية, تبعثر صفوفهم وسط ميدان التحرير, وتطاردهم في مشهد مقزز لا يصدقه العقل, ولا يقبله المنطق,
حتى داست الخيول بحوافرها على أجساد أنصار الحق, الذين أرهقهم الجوع, وأنهكهم التعب والبرد والسهر, ليتساقطوا بين قتيل وجريح, مضرجين بدمائهم تحت سنابك الخيول وحوافر البغال, ما أثار موجة عالمية من السخط والاستنكار, إذ لم يذكر التاريخ القديم ولا الحديث أن قامت الأقوام الهمجية باستخدام الإبل في يوم من الأيام لقتل الناس سحقا بالقوائم, ولا توجد في الكون قبائل متوحشة بهذا المستوى الذي يجعلها تتهور بالصورة المستهترة, التي شاهدناها عبر التلفاز, وهي تمارس طريقتها الدموية, التي لم تخطر على بال حتى الأبالسة, في استخدام حوافر الجمال الهائجة لتمزيق الصدور العارية, وبقر البطون الخاوية, ونحمد الله أن الزعيم السفاح المؤمن بشريعة الغاب, لم يستخدم لحد الآن قطعان الثيران والأبقار والنمور والفيلة, ولم يطلق ذئابه المسعورة لمطاردة الأحرار الذي رفضوا الخضوع والذل, وقاوموا البطش والتنكيل والفساد.
كانت الفضائيات تنقل للعالم كله تفاصيل هذه المشاهد المؤلمة, وتبين للناس الأساليب الإجرامية المخزية التي لجأت إليها الحكومة المصرية الضالة لإجهاض الثورة.
أغلب الظن أن جلاوزة السلطة خططوا لغزو ميدان التحرير, وقرروا الهجوم على المتظاهرين من ثلاثة محاور, المحور الأول ينفذه رجال الأمن المركزي بالزي المدني, والثاني عن طريق زج عمال شركات رجال السلطة الذين علقت رواتبهم لحين المشاركة في الهجوم, والثالث عن طريق تسخير البلطجية والأشقياء والسرسرية, والعمل على إيهام الناس بان هذه المجاميع خرجت تلقائيا لتعبر عن تأييدها للنظام الجاثم على شرايين النيل منذ ثلاثة عقود, وجاءت لتقف ضد الذين شقوا عصا الطاعة, وضد الذين خرجوا على النظام, وكعادتها في كل مرة لم تكن العناصر الموتورة المؤيدة للنظام مسالمة في تعبيرها عن حبها لزعيمها الموميائي, بل جاءت لتعتدي على المعتصمين بالركل والضرب والطعن والحرق, واندفعت نحو ميدان التحرير لتطلق العيارات العشوائية على الناس, وتستخدم الأسلحة النارية, والبنادق الأوتوماتيكية, والقنابل اليدوية, والعبوات الحارقة والخانقة, فتصاعدت وتيرة الهجمات والغارات المسلحة التي شنها البلطجية على المعتصمين في الميدان وسط غياب عربي رسمي تام. وربما سيظهر علينا بعد أعوام رجل عديم الذمة على غرار (أبن العربي) ليقول لنا: أن الأرواح الزكية التي زهقت في ميدان التحري, والشهداء الذين سقطوا في وسط القاهرة, هم الذين قتلوا أنفسهم بأيديهم, وان الأمير المبارك (حسني أبن عم زياد بن أبيه) لا دخل له في كربلاء ميدان التحري.