"صحوات ضمائر" .. متأخرة





العرب


تثير "صحوة الضمير" التى تنتاب من حين إلى آخر كبار المسؤولين الدوليين، لاسيما موظفى الأمم المتحدة الاستغراب، لسبيين أولهما أنها اعترافات تأتى دائما متأخرة وفى وقت لم يعد يسمح بالتصحيح، وثانيهما أن هؤلاء المسؤولين أحيلوا على المعاش ولم تعد لاعترافاتهم أو "صحوات" ضمائرهم أى منفعة.

ما جرنا لهذا هو الهجوم الذى شنه المبعوث الأممى السابق إلى أفغانستان والعراق الجزائرى الأخضر الإبراهيمي، الذى قال فى تصريحات صحفية إن الولايات المتحدة دمرت العراق، ولم تتخذ أى قرار سليم فى هذا البلد منذ أن حشدت عليه أعداءه وأشقاءه واحتلته فى مارس- آذار 2003، وسط عالم يتفرج وقتها وأمم متحدة خامدة لم تنبس بحرف على انتهاك قوانينها وتدمير دولة "العراق" كانت من أول مؤسسيها عام 1945.

وقبل الإبراهيمى كان رئيسه الأفريقى كوفى أنان قد وجه فى أسابيعه الأخيرة أمينا للمنتظم الأممى سهام نقده للغزو الأمريكى للعراق، وقال فى نوفمبر 2006 إن العراق مقبل على حرب أهلية، فى الوقت الذى كانت فيه واشنطن تروج لمؤتمرات إقليمية ودولية حول العراق، ودفعت بديبلوماسييها وجنرالاتها للتأكيد على أن الأوضاع سائرة إلى التحسن والهدوء، وقد أثارت تصريحات أنان، وقتها، غضب البيت الأبيض ولوبى المحافظين الجدد، وسرعان ما انقلب عليه الموقف وأصبح نجله متهما بالضلوع فى "كوبونات النفط" ضمن ما يسمى اتفاق النفط مقابل الغذاء.

وعلى أية حال، فأنان والإبراهيمى وغيرهما من كبار المسؤولين، كانوا شهودا أكفاء على جريمة غزو العراق وما تبعها من فصول فظاعات القتل والتهجير والتعذيب والإعدام والنهب، لكنهم صمتوا خوفا من القبضة الأمريكية.

وكان أمل الكثير من العرب أن يتحدى الإبراهيمى الترهيب الأمريكى ويتحدث ويحتج وهو ما يزال مبعوثا أمميا فاعلا خاصة والرجل عرف بمواقفه القومية ونعلم جميعا أنه قد مورست عليه الكثير من الضغوطات.

الابراهيمى يورد اعترافا آخر بأن الولايات المتحدة شنت الحرب لتدمير العراق ومن ثم سلمته إلى ايران، وهذه شهادة إضافية من مسؤول لا يستهان بقدره ودوره، وهى أيضا حقيقة لا تنكرها الوقائع، فإيران وجدت متنفسا كبيرا فى تدمير العراق دولة وشعبا وقوة لتكون هى الطرف الأقوى فى الإقليم والمحاور الرئيسى للغرب.

وحتى أسلحة الدمار الشامل، وهى الهدف المعلن، لم توجد، بتأكيدات الوقائع بعد الغزو وتنويهات عديد الجهات عشية العدوان والاحتلال، مثلما فعل صيف 2002 الديبلوماسى السويدى رولف ايكيوس قبيل الغزو بأشهر وصرح بأن أسلحة الدمار الشامل فى العراق غير موجودة، وزاد فاتهم الولايات المتحدة بسعيها لاستخذام فرق التفتيش للحصول على معلومات استخبارية تمهيدا للغزو، مع العلم أن ايكيوس كان رئيس فريق المفتشين عن الأسلحة المزعومة واستقال من هذه المهمته عام 1998، احتجاجا على عدوان "ثعلب الصحراء".

ويبدو أن ايكيوس كان بداية مسلسل "الاعترافات والندم"، ومن يدرى ربما يطل علينا الرئيس الأمريكى جورج بوش عقب انتهاء ولايته العام المقبل بـ"صحوة"، ويعلن ندمه على غزو العراق، ويكتفى بكلمات محدودة للمواساة، كما لا يستبعد أيضا أن يتنصل البعض من الذين زكوا تنفيذ الإعدام بحق الرئيس السابق صدام حسين ورفاقه الثلاثة الآخرين ويتبرأوا ويتهموا غيرهم بالتحريض والإصرار على التنفيذ.

ما حدث للعراق نكبة يتحملها العالم أجمع وليس جهة واحدة، ومهما تعالت صرخات الندم، فإن الجريمة لن تسقط بالتقادم وستظل دماء ضحاياها تلاحق الغزاة.

اعتراف الإبراهيمى قد يكون متأخرا وغير ذى معنى فى السياق التاريخي، ولكنه جاء فى وقته بالنسبة إلى المقاومة الوطنية فى العراق التى اشتد عودها وبدأت تحارب المحتل بسلاحه، ونعنى المناورة والتكتيك السياسى والعسكري، فهى ليست بحاجة إلى سلاح ومقاتلين أو دعم خارجي، بل هى تحتاج مواقف تشد من أزر ثوابتها، وقد يكون موقف الأخضر الأبراهيمى الذى أفلح عندما كان وزيرا لخارجية الجزائر عام 1989 فى إخراج لبنان من حربه الأهلية باتفاق الطائف، بادرة خير وشهادة لصالح العراق ومقاومته فى رحلة التحرير الطويلة.