كاظم فنجان الحمامي
نحمد الله إننا مازلنا نعيش في العراق ولسنا في جزر الوقواق, بيد إن ما يجري الآن خلف الكواليس السياسية, وما يلوح في الأفق من نوايا انفصالية مبيتة, يؤكد بما لا يقبل الشك ولا التأويل ظهور طيور الوقواق المريبة, بنزعاتها الأنانية, وخصالها الإتكالية, ونظراتها المخادعة. .
لم يكن اسم هذه الطيور رمزا وهميا مقتبسا من حكايات ألف ليلة وليلة, ولا من عصافير الفيلسوف الهندي (بيدبا) المحلقة في عرين (كليلة ودمنة), ولا هي من طيور سوق الغزل ببغداد, فالوقواق طائر انتهازي لئيم, وهذا هو اسمه الحقيقي, ويسمونه بالانجليزية (كوكو Cuckoo), واسمه العلمي كنورس, لكنه ليس كالنورس, وشتان بينه وبين ذلك الطائر الوديع المحلق في فضاءات البراءة. .
يتميز الوقواق بقدراته العجيبة في التطفل على غيره, وينفرد بالعيش الإتكالي على الطيور المسالمة, لكنه سرعان ما يتنكر لها, وينقض عليها بمخالبه, فيمزقها وينتف ريشها, ويقتل أفراخها في اليوم الأول الذي يتعلم فيه الطيران, ثم يغادر العش إلى غير رجعة من دون أن يغرد بنغمة شكر واحدة يهديها للأم التي تربى في عشها, بل على العكس تماما, فهو أول المسيئين لها فور حصوله على الهوية الوقواقية. .
وللوقواق (الكوكو) صفة أخرى اكتسبها من غبائه المفرط, فمفردة (كوكو Cuckoo) بالانجليزية الدارجة, تعني أبله أو أحمق, وتطلق أيضا على الشخص الثرثار, الذي يكثر من (الوقوقة) والكلام الفارغ, ويكرر العبارات نفسها على نحو رتيب, فيقولون عنه: (يوقوق). .
ربما لا يعلم القارئ الكريم, إن طائر الوقواق هو العامل الرئيس في شيوع المثل الشعبي الدارج: ((البيت بيت أبونا والقوم طردونا)), والذي نردده دائماً, عندما يزاحمنا أقاربنا في بيتنا, ويشاركوننا في مأكلنا ومشربنا وملبسنا, ويقتطعون حصة كبيرة من مصروفنا اليومي لكي يغطوا بها احتياجاتهم الشرائية, ثم سرعان ما ينقلبوا ضدنا, ويعلنوا الاستيلاء على الطابق العلوي من منزلنا, فينفصلوا عنا, وربما يناصبونا العداء من غير ذنب, وقد يجبروننا على العيش في الطابق السفلي أو في الكراج. .
ينفرد الوقواق بخصال عجيبة, فهو طائر مغتصب, يضع بيضه في أوكار غيره من الطيور الأخرى أثناء غيابها لطلب الرزق, وإذا وجد بيضا لصاحبة العش فإنه يدحرجه, ويدعه يسقط ليتكسر على الأرض, فتعود صاحبة العش إلى وكرها لترقد على البيضة الجديدة من دون أن تنتبه إلى التغيرات التي طرأت على العش, فترقد عليها حتى تفقس, وأول عمل يقوم به فرخ الوقواق فور خروجه من البيضة هو إخراج البيض المتبقي من العش, لكي يستحوذ وحده على ما تجلبه الأم من طعام, وتواصل الأم إطعامه حتى يكتمل نموه ويشتد عوده, فإذا كبر وصار قادرا على الطيران أعلن التمرد عليها. .
هذا هو طائر الوقواق, وهذه هي أكبر رذائله, فلا فرق بينه وبين النماذج التي تعيش الآن على ارض العراق, وتتنعم بخيراته, وتحصد من المكاسب ما لم تحصده ربيبة البيت الأبيض عندما كانت تحت رعاية أمريكا قبل أن تتأمرك عليها. .
هناك ثماثل عجيب بين سلوك الوقواق وسلوك النماذج, التي تفكر الآن بالانسلاخ من جسد العراق, وتخطط للانفصال عنه إن عاجلا أو آجلا, وربما تمادى بعضها كثيرا في سلوكه الوقواقي القائم على استنزاف ثروات العراق لبناء نواة دولته الانفصالية المرتقبة. .
وبموازاة هذا العقوق الوقواقي, تتصاعد نبرة الأصوات السياسية الداعية إلى التكبر على العراق وأهله, من دون أن تشعر بتأنيب الضمير, والانكى من ذلك أنها آمنت بالمنطق الوقواقي, ومفاده إن الأغلبية العراقية الصامتة تستحق الافتراس, فما أقبح الوقوقة عندما تصبح سلوكاً محليا شاذا مدعوما من بعض الكيانات الدولية المجاورة للعراق,
قولوا لنا بربكم, كيف نتدبر أمر الوقواق الرابض في عشنا إذا كانت دعوات الانفصال تتصاعد حدتها شيئا فشيئا في أروقة الكيانات الدولية المعادية للعراق ؟. وكيف نتخلص من شرور الوقاويق والوطاويط الصغيرة التي زرعها الوقواق الأمريكي الأكبر في قلب العراق ؟. .
قبل مئة عام بالتمام والكمال كانت بريطانية هي الوقواقة العظمى, التي لا تغيب عنها الشمس بشهادة المهاتما غاندي, وكانت هي التي مهدت الطريق لإجراء عملية استئصال الكويت من خاصرة العراق ابتداء من عام 1916 على يد الجراح الانجليزي (سايكس) , ثم دارت الأهلة دورتها, فهبت علينا عواصف الصحراء, واجتاحت حفر الباطن, وظهر المارد البنتاغوني الشرير من غواصته النووية, وقرر تعويض الكويت من وريدنا السابع, والسماح لها بالتمدد صوب جبل (سنام), وصوب خور عبد الله , وها نحن اليوم نسمع بظهور وقاويق جديدة تعيش من خيرات العراق, وتتغذى من رحيقه, لكن غريزتها الوقواقية تجاوزت مظهرها العقلاني, فراحت تطلق دعوات الانفصال, وحددت عام 2016 موعدا تقريبيا لإجراء عملية الاستئصال على يد مجموعة من أبرع الاختصاصيين في جراحة التقسيم والتجزئة . .
لا ندري كيف قادها تفكيرها الأعمى إلى مغادرة هذا الفردوس, الذي تعيشه الآن في كنف العراق؟. وكيف ترفض هذا النعيم والرخاء والازدهار والدلال لترمي بنفسها في التهلكة, وهل توجد قومية في الكون كله تتمتع بهذه المزايا والعطايا, وتتحكم بهذه الموارد العظيمة وتفكر في الوقت نفسه بالتخلي عنها, لتعلن انفصالها عن العراق ؟.
لكنني أرجع وأقول: إنها طبيعة الوقاويق, وما تمليه عليها غرائزها الغريبة, التي حرضتها على السير في المسار الذي سلكته الوقاويق الخليجية عندما سبقتها في إعلان الانفصال عن العراق والتمرد عليه, فالطيور على أشكالها تقع. ولا فرق بين وقواق وآخر إلا بمقدار المساحة التي سيقتطعها من أرض الرافدين. .
والله يستر من الجايات
أنت عراقي
حينما تحس انك وحدك تفهم ما يدور. . ووحدك تقف متصدياً ومتحدياً وساخراً وزاخراً بالخسارات, ومستَلَبا من إنسانيتك. . فأنت عراقي
الشاعرة ريم قيس كبّة