الإسلام دين الوسطية، قال تعالى: )وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ( ([1]) وقد مدح الله تعالى هذه الأمة بتلك الصفة (كونهم أمة وسطا) ووسطية الإسلام وسطية بين شرين، بين الغلو والتقصير، والإفراط والتفريط، وكلاهما شر، والمسلم عليه أن يدور مع هذه الصفة في كل أقواله وأفعاله، فلا غلو ولا إفراط، ولا تقصير ولا تفريط، بل سير على هدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان هو الوسط بين ذلك كله، وجمع لنا كل خصال الخير فأمرنا بها، وكل خصال الشر فنهانا عنها.
التكفير عمدة الفكر الإرهابي، وعلاقة التكفير بالإرهاب علاقة وثيقة؛ لأن المسلم لا يتجاوز حدود الشرع والدين في حكمه عليهم أو تعامله معهم، بل يقف عند ما سنه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضحه لنا علماء الأمة الثقات المتبعون لسنة النبي صلى الله عليه وسلم . يقف عند هذه الحدود ولا يتجاوزها إفراطا ولا تفريطا، ولأنه لا يزال مراعيا للحرمات ما دام يرى أنها محرمة، فلا يستحل من أحد دما أو مالا أو عرضا، ما دام يقر له بعقد الإيمان. ولذا فإن الجرائم التي تتعلق بذلك محدودة في الأمة وعلاجها بالحدود. وأما أن يتعدى الأمر إلى تكفير المخالف والمناوئ فإنه يستحل منه ما يستحل من الكفار.
وقد ضل أهل الفكر الباطل التكفيريون في باب التكفير ضلالا مبينا، فأخذوا بظواهر النصوص دون فهم صحيح لها على النحو الذي فهمه السلف الصالح، فخلطوا بين كفر العقيدة وكفر العمل، وقالوا بأن مرتكب الكبيرة أي كبيرة كافر بالله، وخلطوا بين حكم الشرع بتكفير المطلق وهو التكفير النوعي غير المحدد بواحد بعينه وبين تكفير المعين، وبالجملة لم يراعوا الضوابط الشرعية للتكفير حتى رموا بالكفر كل من خالفهم في الرأي، واستباحوا منهم كل شيء.
ولما كانت قضية تكفير المسلمين قد أصبحت ظاهرة وقع فيها نفر من الشباب بجهل أو هوى، أضحى لزاما علينا أن نوضح خطورة هذه الظاهرة، وأنها من مظاهر الغلو في الدين والإفراط والتشدد في الحكم على الناس بغير حق.
والوسطية تقتضي من المسلم أن يكون عادلا وقافا عند حدود الله في الحكم على المسلمين، فلا يغلو في الحكم على الناس بالكفر، وهم في حقيقة الأمر مسلمون موحدون، ولا يضفي صفة الإيمان على من كفر بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم وراح يهزأ بالشرع والدين.
وسنناقش في هذا الموضوع الأمور الآتية:
أولا: الكفر لغة واصطلاحا.
ثانيا: خطورة التسرع في التكفير.
ثالثا: الآثار المترتبة على التكفير.
رابعا: التفريق بين الكفر المطلق وبين تكفير المعين.
خامسا: ضوابط تكفير المعين وشروطه.
سادسا: موانع التكفير.
سابعا: التكفير بالموالاة الظاهرة.
ثامنا: التفريق بين الموالاة وبين المخالفة.
أولا: الكفر لغة واصطلاحا:
التكفير: تفعيل من الكفر، يقال: كفر فلان فلانا تكفيرا، أي نسبه إلى الكفر، ومن معاني التكفير في اللغة: التغطية والستر، ومنه تكفير البذر، أي تغطيته بالتربة ([2]) .
وأما في الشرع فإن معرفة حقيقة التكفير تتوقف على معرفة معنى الكفر، وهو ما سنبينه فيما يأتي:
تعريف الكفر:
الكفر في اللغة يعطي معنى الستر والتغطية: ووصف الليل بالكافر لأنه يستر الأشخاص والأشياء بظلامه، كما وصف الزراع بالكفار لسترهم البذر في الأرض، قال تعالى: )كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ( ([3]) .
وهو في لسان الشرع يطلق على معنيين، أحدهما كفر عقيدة، والآخر كفر عمل ([4]) .
فكفر العقيدة عدم الإيمان بما يجب الإيمان به من وجود الله ووحدانيته، وبما يجب له من صفات الكمال والجلال، وبالعقائد الأخرى.
وكفر العمل جحد المعروف وعدم شكره، ومنه قوله تعالى: )فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ ( ([5]) .
وإذا كان الكفر في لسان الشرع له معنيان - على ما أسلفنا وعلى ما سوف يتضح من أنواع الكفر - إلا أن العرف جرى على استعمال الكفر في كفر العقيدة لا كفر العمل، والتكفير أيضا عند الإطلاق ينصرف في عرف الناس وعلماء الشرع إلى الرمي بالكفر بمعنى الخروج من الملة - نعوذ بالله تعالى من ذلك.
جاء في مفردات الراغب الأصفهاني:( أن الكفران أكثر استعمالا في جحود النعمة، وأن الكفر أكثر استعمالا في العقيدة، وأن "الكفور" فيهما جميعا، والكفار في جمع الكافر المضاد للإيمان أكثر استعمالا )أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ ( والكفرة في جمع كافر النعمة أكثر استعمالا )أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ( ([6]) ألا ترى أنه وصف الكفرة بالفجرة، والفجرة قد تقال للفساق من المسلمين ) ([7]) .
لذا عرف التكفير في الاصطلاح الشرعي بأنه:( نسبة أحد من أهل القبلة إلى الكفر) ([8]) .
والمعنى الحكم عليه بالخروج من ملة الإسلام والعياذ بالله تعالى.
لذا فإن الكلام عن التكفير مخصوص بكفر العقيدة، ولا ينصرف إلى كفر العمل الذي يوصف مقترفه بأنه عاص أو فاسق أو جاحد للنعمة أو مذنب مع كونه مسلما.
وهو أيضا مخصص بالعرف عرف الاستعمال، فالذي يتطرق إلى الذهن عند إطلاقه لفظة التكفير هو الخروج عن الملة.
ثانيا: خطورة التسرع في التكفير:
التكفير مزلق خطير، والحكم على الإنسان بالكفر - كما سبق - حكم خطير له آثاره العظيمة، ولا يجوز لمسلم أن يقدم عليه إلا ببرهان واضح ودليل قاطع ساطع؛ فالإيمان والكفر محلهما القلب، وليست كل القرائن الظاهرة تدل يقينا على ما في القلب، والإسلام نهى عن اتباع الظن في أكثر من نص من نصوص القرآن والسنة، وطلب الحجة والبرهان على الدعوى الصحيحة وخصوصا في العقائد، وتطبيقا لذلك نعى على أسامة بن زيد رضي الله عنهما قتله لرجل ألقى إليه السلام، وأمر بالتبين، قال تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ( ([9]) .. فقد كرر الأمر بالتبين لأهميته، ولم يقبل الرسول صلى الله عليه وسلم اعتذار أسامة بن زيد رضي الله عنهما في ذلك، فعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: )بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فصبحنا الحرقات من جهينة، فأدركت رجلا فقال: لا إله إلا الله، فطعنته، فوقع في نفسي من ذلك، فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقال: لا إله إلا الله وقتلته؟ قال: قلت يا رسول الله: إنما قالها خوفا من السلاح، قال: أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم قالها أم لا؟" فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ( ([10]) .
ولذلك رهب النبي صلى الله عليه وسلم من التسرع في تكفير المسلم. ففي الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: )إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما( ([11]) وفي رواية )أيما امرئ قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال، وإلا رجعت عليه( ([12]) وفي رواية: )من دعا رجلا بالكفر، أو قال: عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه( ([13]) أي رجع. وقال: )ثلاث من أصل الإيمان: الكف عمن قال لا إله إلا الله، لا تكفره بذنب، ولا تخرجه من الإسلام بعمل( ([14]) وعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: )من حلف بملة غير الإسلام كاذبا فهو كما قال، ومن قتل نفسه بشيء عذب به في نار جهنم، ولعن المؤمن كقتله، ومن رمى مؤمنا بكفر فهو كقتله( ([15]) .
قال ابن دقيق العيد:( وهذا وعد عظيم لمن كفر أحدا من المسلمين وليس هو كذلك، وهي ورطة عظيمة وقع فيها خلق من العلماء، اختلفوا في العقائد وحكموا بكفر بعضهم بعضا ) ([16]) .
فهذه الأحاديث وأمثالها فيها التحذير من التكفير والزجر عنه؛ لأنه حكم شرعي مضبوط بضوابط معلومة من نصوص الكتاب والسنة، فلا يصار إليه بمجرد الهوى والجهل؛ فإن من ادعى دعوى وأطلق فيها عنان الجهل مخالفا لجميع أهل العلم، ثم مع مخالفتهم يريد أن يكفر ويضلل من لم يوافقه عليها فهذا من أعظم ما يفعله كل جهول.
ولأن أصل الإيمان والكفر محلهما القلب، ولا يطلع على ما في القلوب إلا الله، يقول U )مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( ([17]) .
(فالكافر هو من شرح بالكفر صدرا، فلا بد من شرح الصدر بالكفر وطمأنينة القلب به وسكون النفس إليه، فلا اعتبار بما يقع من طوارق عقائد الشر لا سيما مع الجهل بمخالفتها لطريقة الإسلام، ولا اعتبار بصدور فعل كفري لم يرد به فاعله الخروج عن الإسلام إلى ملة الكفر، ولا اعتبار بلفظ تلفظ به المسلم يدل على الكفر وهو لا يعتقد معناه) ([18]) .
إن الحدود تدرأ بالشبهات، ومنها عقوبات لا تصل إلى درجة القتل، فكيف نتعجل بالحكم على رجل دون أن نتأكد منه ؟
نسب إلى الإمام مالك رحمه الله تعالى أنه قال:( من صدر عنه ما يحتمل الكفر من تسعة وتسعين وجها ويحتمل الإيمان من وجه حمل على الإيمان) ([19]) وروي عنه أنه قال: ( إنما كف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنافقين ليبين لأمته أن الحاكم لا يحكم بعلمه) ([20]) .
لقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الأخذ بظواهر المسلمين وحسن الظن بهم: )من شهد ألا لا إله إلا الله، واستقبل قبلتنا، وصلى صلاتنا، وأكل ذبيحتنا فهو المسلم، له ما للمسلم وعليه ما على المسلم( ([21]) .
ونهى عن قتال من لهم مسجد أو يؤذن فيهم، فعن أنس رضي الله عنه قال: )كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا قوما لم يغز حتى يصبح، فإذا سمع أذانا أمسك، وإذا لم يسمع أذانا أغار بعدما يصبح، وسمع رجلا يقول: الله أكبر الله أكبر، فقال:" على الفطرة"، ثم قال: أشهد ألا لا إله إلا الله، فقال:" خرجت من النار( ([22]) وعن عصام المزني قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث السرية يقول: )إذا رأيتم مسجدا، أو سمعتم مناديا فلا تقتلوا أحدا( ([23]) .
يقول الشوكاني: (فيه دليل على جواز الحكم بالدليل، لكونه صلى الله عليه وسلم كف عن القتال بمجرد سماع الأذان، وفيه الأخذ بالأحوط في أمر الدماء؛ لأنه كف عنهم في تلك الأحوال مع احتمال ألا يكون على الحقيقة) ([24]) .
فهل غابت هذه النصوص عمن يسارعون إلى الحكم بالكفر على الناس، بالرغم من وجود الظواهر التي تجعل الإنسان على الأقل يتحرج عن إساءة الظن بهم، ويرمي مجتمعهم كله بالكفر، وفيه المساجد مفتوحة، والأذان مرفوع بأعلى الأصوات ؟ بل كيف يرمى مجتمع يضم في جنبات أرضه المسجد الحرام ومسجد المصطفى عليه الصلاة والسلام ؟! هدانا الله جميعا سواء السبيل ([25]) .
ومن جهل هؤلاء أنهم ذهبوا إلى أن كل ما سماه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم كفرا في نصوص القرآن والسنة هو من الكفر المخرج من الملة الذي يوجب خلود صاحبه في النار، ولم ينتبهوا إلى أن هذا الإطلاق لا يصح. فأهل السنة والجماعة - عبر استقرائهم لكل نصوص الكتاب والسنة - قرروا قاعدتهم الذهبية في هذا الشأن، وهي أن ما سماه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم كفرا ليس بالضرورة أن يكون من الكفر المخرج من الملة، إنما قد يكون كفرا أصغر لا يخرج فاعله من الملة، ويحمل على كفر النعمة ونحو ذلك، وقد يكون ما سمي كفرا في الكتاب والسنة كفرا أكبر يخرج فاعله من الملة.