لحكمة إلهية بالغة بقي الإمام السجاد عليه السلام حيا بعد المجزرة الدموية الأموية في كربلاء ، فأخطر مرحلة هي التي أعقبت كربلاء وما جرى فيها حيث استبيح الدم الطاهر المتمثل بسيد شباب أهل الجنة عليه السلام وأهل بيته الكرام وأصحابه وانتهكت حرم الإسلام وتولى الأمة كل منحرف شاذ , بعد هذه الظروف بدأ الإمام عليه السلام يقود الحركة الإصلاحية ويصحح ما انحرف من خلال استكمال الشوط الرسالي الذي بدأه الحسين عليه السلام ، فبني أمية قاموا بتشويه الإسلام وأهل الحق بوضع الأحاديث وتصفية المعارضين جسديا وإنشاء الفرق الفكرية المعارضة ونشر ثقافة السكوت عن الظلم والظالمين بين المسلمين ، وتعطيل الحدود وإيقاف الشرائع وإشاعة البدع في الدين , حيث كانت واقعة الطف الرهيبة الفجيعة واحدة من أعظم الإثارات الإعلامية أثبتها الإمام الحسين عليه السلام بقوله :" أنا قتيل العبرة " و قوله :" إنما خرجت لطلب الإصلاح في امة جدي رسول الله صلى الله عليه وآله.." , وهذا الدور الإعلامي اضطلع به الإمام زين العابدين "عليه السلام "بعد عاشوراء ومعه البقية العائدة من كربلاء ، وبالذات زينب عليها السلام مدة خمس وثلاثين سنة كان لها من الناحية المعنوية الأثر المهم في حياة الأمة الإسلامية .
لقد كان الإعلام مشوها ومنكوسا ..فالإعلام – كما هو معلوم - له ثورته الخاصة ، ويعبر عنه بالثورة الباردة لأنه يقلب الحقائق رأسا على عقب ، حيث يجعل الباطل حقا والحق باطلا , نعم إن الإعلام له دور كبير في التأثير على الآخرين وفي توضيح الحقائق وكشفها وأيضا في تغيير الحقائق ، فكان هَم الإمام عليه السلام كشف الحقيقة لكثير من الناس لأنهم يسمعون بصورة مغايرة للحقيقة , فالسائد بين الناس - بسبب التشويه الإعلامي- إن أهل البيت عليهم السلام هم خوارج ، خرجوا على الخليفة وهم بذلك يستحقون القتل !! لكن الإمام عليه السلام في محاججاته كشف للناس أنهم أهل بيت الوحي والرسالة من خلال خطبته الشريفة ..
وكانت بداية الحركة في الشام ، حيث الدور الإعلامي أكثر تأثيرا من قعقعة السيوف وطعن الرماح مع ما يستبطن من فضح وكشف واحتمال تصفية وقتل ، فيقف الإمام السجاد عليه السلام في مجلس يزيد مسفها الدعاوى الأموية التي حاولت تشويه نهضة الحسين عليه السلام وتزييف أهداف ثورته ، فندّد بالعصابة التي حرفت الدين ووضع بذلك العناوين الأولى في المسيرة التبليغية الإعلامية التي تقود مسيرة الإحياء العظيمة ... حتى رسّخ في ضمير الأمة قواعد الإعلام الحسيني المبارك ، حيث كان أول وأعظم هدف هو إظهار الجانب المأساوي لواقعة الطف لتبقى راسخة في ضمير الأجيال المتصاعدة لتكون شعلة متقدة في أفئدة المؤمنين تستثير فيهم حوافز الخير والفضيلة وتدعوهم الى الاجتهاد والإيثار . لقد كانت رسالة الكلمة لها كبير الأثر في هدم جدار الصمت والتردد والخوف في الكوفة والشام ثم في المدينة ولم تكن خطبته عليه السلام أقلّ من الدم الذي سفك في كربلاء ، ولو لم يكن الإمام عليه السلام مع زينب عليها السلام – مع حاله المأساوي – لضاعت كثير من معالم الثورة الحسينية.
كما عمل عليه السلام على بناء القاعدة الجماهيرية الشعبية المؤهلة لحفظ الرسالة وحدودها بعيدا عن الزيف والتزييف وسياسة تسطيح الوعي التي غطت مساحات عريضة من الجمهور وتعميق مفهوم الإمامة والولاية بالجماعة الخاصة بعد أن اهتزت لدى العامة تحت ضغط الإعلام المزيف وأبواقه المأجورة ، فلم يكن من المناسب التحرك بثورة كما قام الإمام الحسين عليه السلام ، لذا فقد لجأ الإمام عليه السلام الى سياسة التكتيك والعلاج الروحي وغسل الضمير الإنساني الذي كانت تحمله الأمة بقتلها ابن بنت نبيها صلى الله عليه وآله وابتعادها عن الدين وعدم مبالاتها بالقوانين الإلهية ، فتصدى عليه السلام بسلوكه وهديه وتعاليمه وإرشاداته حتى تغلغل في وسطها ..
كما لم يغب عن الإمام عليه السلام أن يضع منهجا دقيقا للعمل يراعي فيه جبروت السلطة الحاكمة التي كانت تحسب على الإمام السجاد عليه السلام حركاته وسكناته من خلال الجواسيس , في الوقت الذي حرّك فيه أجواء الصراع ضد الظالمين لتطويق مساعي الحكام الأمويين في الالتفاف على جريمتهم في تحريف الدين وخبثهم في احتواء غضب الأمة ضد قتلة الحسين عليه السلام وأصحابه .
لقد أنجز الإمام السجاد عليه السلام مهمته القيادية بالحفاظ على الجانب العقائدي والفكري والأخلاقي للأمة من خلال ادعيته عليه السلام ، فالصحيفة السجادية ( زبور آل محمد) تضم أدعية تحتوي على الأهداف والمسؤوليات المؤدية الى تحقيق التربية الروحية .
وبما أن القيادة تعني الحفاظ على الأمة في أدوارها المختلفة فقد ضرب عليه السلام أروع الأمثلة في الحث على العلم واحترام العلماء وتقديرهم وتعظيمهم ، لأنّ أي أمة من الأمم لا تنهض ولا تقوم لها قائمة ولا تتقدم وتسود إلا إذا كانت لها حضارة ولا يكون لها حضارة إلا بالعلم والمعرفة ، وقد ورد عنه عليه السلام قوله
: لو يعلم الناس ما في طلب العلم لطلبوه ولو بسفك المهج وخوض اللجج , إن الله أوحى الى دانيال : أن امقت عبيدي إلي الجاهل المستخف بحق أهل العلم ... وان أحب عبادي الي الملازم للعلماء التابع للحكماء..
وقد كانت مدرسته عليه السلام تعج بكبار أهل العلم الذين يحملون عنه العلم والأدب , وينقلون عنه الحديث وعلوم الشريعة ..
وواجه الإمام عليه السلام أيضا مقولات عقائدية تبنتها فرق إسلامية ضالة وتمحورت حولها واتخذت مناهج خاصة بها فضمّن عليه السلام أقواله الحكيمة وادعيته نصوصا تجتث تلك المقولات من جذورها ، ومن هذه المقولات عقيدة الجبر والإرجاء اللتين روج لهما الأمويون تبريرا لوجودهم في السلطة ..
وأبدى الإمام عليه السلام - كسواه من الأئمة عليهم السلام - اهتماما متزايدا بالأمة فرسخ علاقته بها وعمق تعامله مع أوسع قطاعاتها فكان الأب الرحيم والقائد الحريص على علاج أدوائها طوال أيام إمامته..وروى عن ولده الباقر عليه السلام قال عن أبيه : انه كان يعول مئة بيت من فقراء المدينة ..
ولكل هذا فان الإمام عليه السلام وعدد قليل من المخلصين الذين تضافرت جهودهم على نصرته استطاع أن يحقق نتائج قياسية ويترك آثارا عظيمة لا يقدر على تحقيقها أي زعيم أو قائد يمر بظروفه , فدوره العلمي كان رائدا وعظيما في إحياء الرسالة المحمدية وتعميقها في النفوس.
انّ الامام السجاد "عليه السلام" بجهاده المتميز في الحفاظ على أهداف ثورة الامام الحسين "عليه السلام" وتدوين الملحمة الحسينية ساعد على وصولها لكل الاجيال على مرّ العصور وبذلك يكون قد ساهم في التمهيد لحركة الظهور المقدس فان الاسلام محمدي الوجود حسيني البقاء وان شعار
الاما م المنتظر "عجل الله فرجه الشريف"هو "يا لثارات الحسين"عليه السلام"لأن المعلوم ان الثورة الحسينية تبقى على حرارتها في المجتمع الاسلامي ولحين ظهور الامام المهدي "عليه السلام" .