يقول الشيخ الغزالي ـ عليه رحمة الله ـ: >إن قراءة النصوص ـ وبخاصة السنن ـ دون معرفة الملابسات التي أملت بها ليست باباً إلى العلم الصحيح، ولا وسيلة إلى التربية الجيدة<(30)· والحق أن مراعاة الأحوال المختلفة للسائلين لا يصلح له أي داعية فضلا عن عموم الناس، إن ذلك يحتاج إلى الاطلاع الواسع والواعي لإجابات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المختلفة للسائلين وملابساتها، والإحاطة بالآثار التي تحدثت عن ذلك، ثم استيعاب العلوم التي تتعلق بالإنسان مثل علم النفس والاجتماع وغيرهما، بالإضافة إلى ذكاء العقل ونقاء القلب، وقبل هذا وذاك توفيق الله تعالى وتسديده· خامسا: تجنب الجدل والنقاشات الحادة
الجدل قرين الضلال، وما ضل قوم بعد هدًى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل، وما يجوز لأمة تؤكل من يمين وشمال وتنهش فيها الذئاب من كل جانب أن تشغل نفسها بالجدل والخوض في الخلافيات والنقاشات الحادة، وإذا كانت قاعدة المنار الذهبية التي تقول: >نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه< ـ مما يجوز فيه الخلاف بالطبع ـ معمولا بها في حال الترف الفكري وقوة الأمة واستقلاليتها، فإن العمل بها والأمة على ما نرى ونسمع ألزم وأوجب·
ويرى داعيتنا أن مصدر هذا الجدل هو الإبقاء على الكلاميات التي دارت رحاها بين الفرق الأولى للمسلمين من مرجئة ومشبهة ومعطلة ومعتزلة وغيرها، ثم تدريس هذا الجدل للعامة من المتعلمين، والعامة من الرعاع، والغفلة عما سيخلفه من آثار سيئة·
إن في القرآن آيات وعد ووعيد، ولو تركت في مجراها الطبيعي لأدت رسالتها الحقة في توجيه النفوس إلى الخير، ولحفظت على المسلمين قوتهم ودولتهم(31)
· هذا نوع من الجدل يبدد طاقات شباب العلم وشيوخه في الهواء، فهم يتحدثون في غير حديث، ويقاتلون في غير معركة، ولا ينفضُّون إلا عن الكراهية والبغضاء والفرقة فيما بينهم· ونوع آخر من الجدل وهو الخوض في الفرعيات، والوقوف على حرفيتها دون النفوذ إلى فحواها ومقصدها، وهذا النوع له هواته المحترفون الذين تنحصر قضاياهم في مسائل فقهية فرعية معروفة، اختلفت فيها الأمة من بعيد، وهي مختلفة فيها اليوم، ولن يزال الخلاف فيها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها·
وعند الشيخ الغزالي أن الاهتمام بهذه اللاأهميات ـ إن صح التعبير ـ كان خطة ماكرة لصرف العامة عن النقد السياسي ومتابعة الأخطاء التي أودت بالدولة الإسلامية قديما، ويبدو أن الخطة لا تزال تنفذ إلى الآن(32)·
مع أن اختلاف الآراء وتباين المذاهب شيء لا يمكن تجاهله، ولا الفرار منه، فتلك سنَّة لله في النصوص والعقول، كما أن الخلاف لا يُحَل بالسفاهة والعصيّ، وإنما يحل بالتعاون على المتفق عليه، والتماس العذر للمخالف، وكم من ميدان عمل الآن يخلو من الرجال؛ لأن الرجال ـ كما يقول الشيخ ـ يتهارشون في ميدان الكلام حول بعض الفروع التي لا تجدي على الإسلام شيئا(33)·
فلابد من منع هذا الجدل