السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
قد يكون المرض دافعاً للعطاء والإبداع إذا تعامل معه الفرد على أنه حدث لايستطيع النيل من صلابة إرادته وأنه ليس عجزاً أو أداة لليأس والقنوط..، قد يركن بعض المرضى إلى العزلة والأنغلاق على أنفسهم لعدة أسباب منها نفسية ومنها أسرية ومنها أجتماعية وحينما يعتادون العزلة سيخضعون بسهولة للعجز الذي سينهك كل مالديهم من قدرات فذة ومواهب ذاتية..،
يقول أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام:
" المرض لا أجر فيه ولكنّه لا يدع على العبد ذنباً إلا حطّه وإنّما الأجر في القول باللّسان والعمل بالجوارح وإنّ اللّه بكرمه وفضله يدخل العبد بصدق النّيّة والسّريرة الصّالحة الجنّة"
ومن هنا نستخلص من قوله بإن المرض يكون كفارة للذنوب إلا أنه لن يؤجر الإنسان عليه ولكن يؤجر بعمله وكيفية التعامل مع المرض إذا كان جزوعاً كارهاً لما حدث له من مرض لن يعمل أي شيء حتماً سيسخط من كل شيء ومن كل من حوله وفي كل الأوقات لن يعمل لإنه يرى أنه ليس من المفترض أن يعمل بل عليه أن يستسلم ولو مرغماً للأمر ويجلس يندب حظه العاثر الذي جعله مريضاً"عاجزاً"..
لدينا نماذج عديدة في جميع نواحي الحياة مرضى لم يرضخوا للمرض بل وجعلوه أداة للإبداع وجعلوا من معاناتهم تلك جوهر للإبداع..
- "نوفاليس" سمي بشاعر الموت ،مات وهو في الثامنة والعشرين من عمره بسبب إصابته بالسل قد قام بجعل مرضه بمثابة الخبرة الخاصة فقال "ألا يمكن أن يكون المرض وسيلة للتأليف الأرقى، حساسية قوية يمكن تحويلها إلى قوى أعلى".
- الفيلسوف "نيتشه" فله تعبيرات مشهورة في هذا السياق منها أنه قال "لم أشعر مطلقا بأنني أكثر سعادة إلا في فترات حياتي الأشد مرضا، فترات الألم العظيم" ورحب "نيتشه" بالمعاناة كطاقة محركة للإبداع.
- "شوبنهور" الفيلسوف الآلماني عبر عن القيمة الإيجابية للألم أيضًا ، وذلك لأن الألم، في رأيه، يقوم بتكثيف الإحساسات، أما الشعور المؤقت بحسن الحال فمآله الطبيعي هو الملل ولاحظ شوبنهور أننا عادة ما نمر بخبرات ألم تفوق تصورنا، وخبرات سرور أدنى من توقعاتنا. واعتقد "شوبنهور" أن الإنسان يحتاج للألم كي تستمر حياته على نحو منتظم مثلما تحتاج السفينة إلى ربان..
-الرسام "ادفارد دى مونشي" كان يقول "دون الألم والمعاناة، سأصبح سفينة تتلاعب بها الرياح".
-الشاعر الإنجليزي الشهير "لورد بيرون" كان متكيفاً مع عجزه الجسمي المتمثل في تشوه إحدى قدميه، ووجد فيه بعض الراحة، وقد ذكر ذات مرة أن "إدمان الشعر كان هو النتيجة لعقل غير مستريح في جسد غير مريح".
- انطونيو غراشي مفكر إيطالي شهير كتب أهم أعماله على الإطلاق، أي دفاتر السجن وهو يعاني من أمراض مختلفة لم تمهله طويلاً بعد خروجه من السجن الذي قضى فيه قرابة عشرين عاماً، وتضمنت هذه الدفاتر خلاصاته الأساسية في الفكر ومفهوم الثقافة والمثقف العضوي وأطروحاته الشهيرة عن المجتمع المدني.
- "توماس مان"روائي آلماني معروف ..قال بوجود علاقة وثيقة بين "المرض والإبداع الفني" ، وذلك لأن "الفنانين العظماء هم مرضى عاجزون إلى حد كبير" . وفي إحدى رواياته وكانت بعنوان "السمو الملكي" يقول أحد شخصيات الرواية، وكان شاعراً "صحتي ضعيفة، ولا أستطيع أن أقول إن ذلك من سوء الحظ، وذلك لأنني مقتنع تماما بأن موهبتي مرتبطة بشكل لا انفصام له مع هذا العجز الجسمي".
-المعري فقد بصره بعدما أصابه الجدري وهو في سن الرابعة من عمره. ولم ير من عالم الانوار والالوان غير اللون الاحمر (ألبسوه ثوبا معصفراً بسبب الجدري).وشعره دفعه عماه إلى تحدي الصعاب والرغبة في التكيف واكتساب العلم والمعرفة والتفوق فيهما وكتابة أروع القصائد الشعرية والتي لازال إلى الآن بريقها وهاجاً..
-بشار بن برد كان أحد البلغاء المكفوفين والشعراء المبدعين وكان يجيد التشبيه والوصف والتصوير مع أنه ولد مكفوفاً..
-ستيفن هوكنغ أحد ألمع فيزيائيي القرن العشرين ومن أبرز علماء الكونيات الذين تصدوا لأصعب الأسئلة على مرّ التاريخ: خلق الكون ومصيره.إنسان يصفه البعض بأنه "معاق" لأنه عاجز تماماً عن الحركة وعن الكلام وإن كان هذا الوصف فيه كثير من الإجحاف وقلة التفهم لواحد من "ذوي الاحتياجات الخاصة" كحالة ستيفن هوكنغ والذي يقول عن نفسه:
"لا أشعر بأنني شخص معاق، وإنما مجرد شخص مصاب بتعطل العصب الحركي، وذلك كما لو كنت مصاباً بعمى الألوان. أظن أن من الصعب وصف حياتي بأنها عادية، لكنني أشعر أنها عادية روحياً".
- الروائي "ديستوفسكي" كان يعاني من نوبات الصرع التي تجتاحه بين الحين والآخر، ويظن بعض النقاد أن هذه الحالات كانت إحدى مخصبات الخيال الروائي والإبداعي، الذي أسعفه في تحليل دواخل النفس البشرية بالصورة التي جعلت البعض يعتقد أنه سبق فرويد في بعض حقول التحليل النفسي.
-فرنسو هوبر.. عالم فيزيائي كان أعمى غير أنه ترك تجارب رائعة كان يتصورها ثم يطلب من خادمه أن يجريها، ولم تكن لخادمه أية فكرة علمية أي كأن هوبر هو العقل الموجه الذي يقيم التجربة، لكنه كان مضطرا إلى استعارة حواس غيره إن هذا المثال يوضح أن الاستقراء العلمي إبداع عقلي..
ماذكرنا هنا ماهو إلا جزء بسيط جداً فكتب العلم والتاريخ والأدب والثقافة والرسم تعج بمثل هذه الشخصيات الفذة التي تغلبت على مرضها بتقديم أعمال رائعة أفادتهم شخصياً وأفادت من حولهم وربما أستطاعوا تحقيق مالم يستطيعه المعافون..، المرض ليس معناه العجز والصحة ليس معناها الإبداع فقد يكون المرض دافعاً للإبداع الفكري والعملي والعلمي والثقافي..
دُمتم جميعاً بكل خير وسؤدد..
أختكم فدك.