(1)
كان هناك رسام بسيط يعشق الفن والجمال ...يمارس مهنته لاجل الفن ليس الا ...وكان يحب رسم البحار بشكل كبير .. كان يجلس في اوقات فراغه قرب البحر ..ويبدأ في تأمله وينظر اليه نظرة عاشق ولهان ...ويبدأ بوضع خطوطه على ورقته ...في يوم من الايام ...وصل ذلك الرسام الى مكانه المعتاد ووضع ادواته امامه وجلس يتأمل كعادته اليومية ..وشعر بشئ من النعاس والارتخاء فتمدد وغفى اغفاءة روح بيضاء صافية شفافة...وبينما هو نائم واذا بالبحر يهدر على غير عادته وفي غير موعده ...انتبه الرسام وهرع لبحره ...
-الرسام ماذا بك ايها البحر الجميل الرائع اراك على غير عادتك مغضبا يملؤك الحنق
- البحر : انت سبب زمجرتي وهديري وغضبي
تعجب الرسام
- انا السبب ؟؟؟لماذا ما الذي فعلته انا لكي اثير غضبك وسخطك
- البحر: نعم انا غاضب منك وساغرقك بموجة واحدة وسانهي رحلتك الى الابد
- الرسام : طيب وما الذي جنيته انا كي تغضب مني وتغرقني في موجك ومياهك
- البحر: لانك تأتي كل يوم هنا وترسمني ثم تذهب الى حيث لا ادري ...ماذا تريد مني؟؟؟فقد بدأت ارتاب بأمرك ..وبدأ صبري ينفذ اتجاهك ...وانا ما صبرت على احد اقترب مني قبلك ولا منحته ما منحتك من تأني وصبر..فقل غرضك والا اغرقتك
- الرسام : انت؟؟؟ وهل يعقل ذلك ؟؟؟انت تمتلك كل هذه القسوة والجبروت ؟؟؟ لتغرق كل من اقترب منك؟؟ ايعقل ان كل هذا الجمال وهذه الروعة ...تمتلك كل هذه القسوة ...لا لا اصدق ذلك
- هنا ضحك البحر ضحكة كبيرة ...وقال :يبدو انك خفت مني ايها الرسام فبدأت تتملق الي وتنافقني ...من اين لي الجمال والروعة ...انا كائن غدار اوصف بالغدر والمكر والتسرع ...وامتلك قوة هائلة في التدمير ...يضاف الى ذلك اني لا املك شيئا من رحمة لذلك فان كل الكائنات التي كانت تحيا في داخلي هجرتني او انا هجرتها بارادتي ورغبتي فانا احب ان اكون بحر ميت ..صدقني كل كلامك لن يجعلني اشفق عليك او ارحمك ..بادر بسرعة وبين لي مبتغاك قبل ان اغضب
- الرسام : يضحك ايضا : لالا ..لا تغضب ..بل هي الحقيقة وانا ما تعودت في حياتي ان اتملق احدا او انافق احدا والا لما وجدتني الان اقف بين يديك ..فانا لا تعجبني الدنيا بمالها ولا بحالها ..انا اعيش لذاتي ...كل ما املكه منها حريتي وريشتي ومخيلة خصبة وروح تعشق السحر والجمال الذي رأيته فيك ونظرت ما لم يستطع كائن اخر ان ينظره ..انت فعلا تروقني جدا ..وانت فعلا كائن مميز ...فيك خصال توحي بالحياة على عكس ما تظن بنفسك وفيك سحر جذبني اليك وفيك حياة ارجو ان تسمح لي بتأملها
- البحر: يسكن قليلا وينظر صوب الرسام نظرة ثاقبة ويتفحص صدقه: طيب ايها الرسام وان وافقتك على طلباتك وصدقتك ماذا ستضمن لي وماذا تريد ان اضمن لك
- الرسام : ساضمن لك اني ساقف الى جانبك ما استطعت الى ذلك سبيل واريدك ان تضمن لي مثل ذلك لا اكثر
- البحر : اذا انا اوافق ..ولكن كيف ستعيد لي الحياة بعد ان ماتت في داخلي .
- الرسام: ذلك متوقف عليك انت وليس علي انا ...لن افعل شئ سوى ان ادعو صديقتي النورسة الى زيارة شواطئك وهي ستجئ بالبقية بسهولة وانت ما عليك سوى ان تبقى هادئ ساكن لا تثر الفزع في قلوبهم ولا تغرق احد ولا تغدر باحد فقط امنحهم الامان ليصدقوك وهم سيكونوا بقمة السعادة
- البحر : لك ذلك اذا اتفقنا
هكذا عاش البحر والرسام حياة كانت بقمة السعادة وكان كلاهما يسئل صاحبه اانت سعيد حقا وانت بقربي
والى جانبي ...مرت فترة وهما الى جنب بعض يتهامسون ويلهون ويعصرون من الحياة خمرا ليشربوا نخب صحبتهم وتألفهم وتقاربهم ...وبينما هم كذلك ...واذا بالرسام ينقطع عن صاحبه ...
(2)
بدأ البحر يقلق عليه ويسئل عنه لكن لم يجد خبرا منه ...وهنا جن جنون البحر فعاد الى سابق عهده ...وبدأ الشك يتسرب الى دواخل نفسه ...واعتقد ان الرسام انما وجد بحرا اخر غيره وهجره اليه ...فبدأ يهدر ويمطر غضبا وقسوة ...
وفي يوم من الايام عاد الرسام الى البحر ...فوجده في قمة الغضب ..لم يتوقع الرسام ان جنون البحر بلغ اقصى ما يمكن ان يصل اليه
حاول الرسام ان يتكلم مع البحر عسى ان يبث اليه شكواه والمه من الفراق ويبين له اسبابه الحقيقية التي ادت لغيابه ...لكن البحر عاد الى طبعه الاول ولن يستطيع كائن ان يعيده الى حيث التأني والرأفة والتحنن من جديد ..اعتقد ان الرسام انما يتلاعب به...وبقي يهدر في غضبه ..انتظر الرسام ...وكان كل يوم ياتي الى البحر ويقف بجانبه يناشده ويتحنن اليه ويحاول ان يجتذبه للكلام والرغبة في التواصل من جديد ...بقي ينتظر وينتظر شهر شهرين ...لم يترك مناسبة الا واستغلها ولم يترك كلمة تحنن الا وبثها ...لكن البحر بقي مصر على موقفه
اخيرا صرخ الرسام في البحر
ايها البحر انا ذاهب ومسافر ويبدو انك لم تعد بحاجة الي
-البحر: ولماذا تريد الذهاب الان
-الرسام : اريد ان ابتعد عنك فعسى ذلك ان يريحك ويمنحك بعض التأني وعدم التسرع بالحكم على الغير
-البحر : لا ابدا انما انت مللت مني ووجدت بحرا اخر تريد ان تخدعه وتصرعه بنفاقك وكذبك ...فقط اخبرني لما كذبت عليّ ومثلت انك تراني الاجمل ...لم جعلتني اتعلق بك وامنحك ثقتي ..
- الرسام وقد خنقته العبرة والالم مما سمع من كلام وتجني ... لالا ابدا لم اكذب عليك ..وهل عهدتني كاذبا ...هل عهدت مني الخداع ...لا تتصور اني اهملتك او سياتي يوم واهملك ...بل هي امور الحياة وتعقيداتها ...ولكل شئ سبب ...تعال نتعاتب ..ونتصارح ...ونتصافى ...فصحبتنا تستحق ان نقتل في سبيلها الانانية ومسمياتها ...انا اخبرك اني بحاجة اليك ماسة ..فهل ستخذلني؟؟
- بل انت من خذلني وقتلني وخدعني ...وقد اطلعت عليك وعلى حقيقتك ...ارحل عني والا سادمرك فقد كنت تسرق مني الجمال والهيبة لتضعها على ورقك الجامد ليصبح لعملك قيمة ومعنى ولانسانيتك ذكر
ما انت الا سارق تتحين الفرص لتقفز على اكتاف الاخرين ..لتتمكن منهم ثم ترميهم صرعى لغرورك وتجبرك وتعاليك
- الرسام : اعرف اني لو تكلمت واقسمت ومنحتك مني اي شئ فلن يجدي ذلك نفعا ...اغرقني ان اردت ..واهطل عليّ بامواج غضبك وجنونك ...واقتل فيّ ذلك الجزء الذي تحتله مني ...فانا مذ خلقت عشقت الابحار في امواجك ..ومذ وجدتك لم افكر في ان ابرح سواحلك ...اغرقني بهدير سخطك فما انت الا مغرق لنفسك .. قد اختفي في دياجيرك وظلماتك ...لكن يكفي اني ساكون في دواخل اعماقك ...ان كان ذلك يرضيك ...اغرقني ايها البحر العنيد
بريشة من الوريد وبحبر من القلب