<TABLE id=table172 cellSpacing=2 cellPadding=0 width="100%" align=center border=0><TBODY><TR><TD align=right><TABLE id=table173 cellSpacing=0 cellPadding=2 width="100%" border=0><TBODY><TR><TD>فالح عبد الجبار
</TD></TR><TR><TD>تاريخ النشر Wednesday, January 03, 2007
</TD></TR></TBODY></TABLE>
</TD></TR><TR><TD>السبت، العاشرة صباحاً. مرت أربع ساعات على دخول صدام حسين عالم الاموات. 36 شهراً ونصف الشهر على خروجه من الحفرة ودخوله السجن. و42 شهراً على سقوط تمثاله في ساحة الفردوس. و38 عاماً على صعوده.
لم يمت كما يشتهي، معمّراً تجاوز التسعين او المئة. مرة وبّخ مهندس احد الجوامع العملاقة التي شادها ايام الحصار، على درجات السلالم لأنها مرتفعة اكثر من اللزوم ولا تناسب (كما قال) شيخوخته المقبلة، فأجداده، كما أدعى، معمرون. الحقيقة أنه كان يعاني من انزلاق الفقرات. كان يهيىء لتقاعده بعد التسعين مثل أي موظف حكومي. وكان يهيىء لأبديته مثل مليك أبتر، لكي يمدّ يده من وراء القبر، فقرر تعيين ابنه الاصغر وريثاً في جمهورية القبيلة، ناسياً درس ابن خلدون: صحيح ان الرياسة في اهل العصبية، لكن الملك يذهب بذهابها.
لم يمت ايضاً كما كان يشتهي مشيعاً في موكب رسمي على عربة مدفع، تجرها جياد مطهمة، متشحة بالسواد، على غرار المشاهد التي صورها مخرج عراقي في فيلم عن الملك غازي، ثاني ملوك العراق. قيل لي ان مشهد التشييع صُور مرات عدة لكي يلائم ذائقة الرئيس. لعله اخذ الدرس من سلفه ستالين الذي كان يجد الوقت للتدخل في تفاصيل فيلم ايزنشتاين عن "ايفان الرهيب" لكي يكون صورة للزعيم الجديد. مؤكد ان الرئيس العراقي عني بصور النساء النائحات، وجلال الحزن في مشاهد فيلم الملك غازي، خصوصاً الغطاء الاسود الذي اتشحت به الجياد. لا ريب في ان لهذه المخلوقات احزانها. لعلها تنفطر كمداً لغياب سائس حان، لكن الثابت ان لا شأن لها بأحزان الملوك والرؤساء، فهي تقضي حاجتها، روثاً وبولا، دون كبير اكتراث بحضورهم الموقر. وجاء تابوت الديكتاتور، اخيراً، في شاحنة تويوتا صغيرة، بلا مرافقين.
لم يمت أيضاً كما طالب المحكمة الخاصة رمياً بالرصاص لأنه "عسكري"، وليس، بعبارته، مجرماً عادياً. ويعرف العراقيون أنه لم يؤدّ الخدمة العسكرية، ولم يدخل الكلية العسكرية، أو كلية الأركان. وأن راعيه وضحيته، foraten.net/?foraten.net/?foraten.net/?foraten.net/? حسن البكر، منحه رتبة لواء استرضاء. لكنه آخر الأمر تدلى فعلاً من حبل المشنقة مثل أي جانح عادي. وعلى لسان احد القضاة الذين حضروا التنفيذ أنه كان "هادئاً، تلا الشهادتين"، ثم مضى الى قاع منصة الاعدام. رأى العراقيون مئات الجنود يلاقون فرق الاعدام بهدوء وكبرياء. لحظة دخوله قاعة الاعدام كان شاحباً، زائغ النظر، فالتفكير في رهبة الموت شيء بشري، آخر المطاف.
لم يمت أيضاً كما يشتهي ضحاياه، الحقيقيون والمزيفون: تمزيق اوصاله، وجرها في الشوارع لتهترىء على اسفلت الطرقات، اشباعاً لرغائب الثأر المنفلت، الذي يميز جموح الرعاع. تمزق اسلافه، نوري السعيد وولي العهد، عبد الإله، بهذا الاسلوب الهمجي قبل نحو نصف قرن. ولم يمت كما يشتهي انصاره، عائداً الى سدّة الرئاسة، او متقاعداً في منفى روسي، ليقضي أيامه الأخيرة في فراش قيصر غابر. لو تسنت له هذه الميتة لكان انهى حياته بالفعل الانساني المتبقى له: ان يموت كالآخرين.
جاء الى الحكم بالقوة السافرة، وبها سقط. عاش بالمشانق، وبها قضى. حكم بفجاجة الغوغاء، وبالفجاجة عينها حُكمت لحظاته الاخيرات.
قبل ثلاثة عقود هدد كل العراقيين أنه لن يغادر إلا بعد ان يترك العراق ارضاً يباباً. كان رجل ادعاء وتصنع، مثلما كان ناكث وعود بامتياز. أحال بلد الازدهار المترع بعوائد النفط، وبالعقول والابداع، ارض خراب. صار العراق، قبل رحيله لا بعده، ارض يباب، أمة شحاذين، مجتمع خرافة وعشائر، انهارت فيه مقومات الدولة المدنية تماماً. لقد نفّذ وعده قبل الاوان. قيل ان الأمة، مثل المرأة، لا تغفر لأول عابر سبيل ان ينتهك عفافها. من عساه يغفر لكل هؤلاء الممسكين بصولجانات الهيمنة، المطوّقين بالعسس، الخائفين من السير في الشوارع، المذعورين من مصافحة الأيدي، المسرفين في الاختباء، المتسترين بالعباءة والخنجر، القلقين من دسائس الرد على دسائسهم.
كنت اشتهي ان أرى نهايته. والحق أشهد ان سقوط تمثاله كان لحظة الهناءة الوحيدة في تاريخ ثلاثة عقود من الانتظار. يوم رأيته مثل جرذ مبلول يخرج من حفرته "الرئاسية"، فقد كل قيمة. لم يعد لحظتئذ اكثر من حشرة في هوام السياسة. والحق أقول ايضاً اني اشحت بنظري عن شاشة التلفزيون لحظة لفوا وشاحا اسود على رقبته قبل ان يضعوا الانشوطة حولها. شاركتني هذا الاستنكاف زوجتي التي شارفت على الموت بعد تعذيب واحد وعشرين يوماً في زنازين مديرية الامن البعثية. كانت ترى ان وجود صدام هو "لمسة شر" سرمدية. فأينما حل، حلّ الشؤم تباعاً. لكنها اشاحت بنظرها بعيداً. اكتشفنا عمق اللا عنف الذي نما فينا بعد كل هذا الغياب.
ثمة برزخ ما يني يتسع بين جلّ العراق وجلّ العرب في النظر الى الرئيس المشنوق، وفي النظر الى واقعة الشنق ذاتها.
كنت اقول في دخيلتي ان اكثر العرب لم يذق طعم كرباج العراق، بل غنم بعضاً من سمنه وعسله. ولكن لا. ثمة خواء عميق في التفكير السياسي والحقوقي في طول العالم العربي وعرضه. فالاعتراضات في معظمها انصبت على التوقيت: حرام ان ينفذ الحكم ليلة العيد! أو كانت سياسية: ان المحاكمة والحكم والتنفيذ مؤامرة. قالت لي سيدة نصف لاتينية / نصف لبنانية: هذا يخدم بوش، لذا اعارضه. او ان الرئيس عسكري يجب ان يرمى بالرصاص، لا ان يقتل بأنشوطة. أو أنه "بطل قومي"، ارسل صواريخه لضرب اسرائيل، وموّن كذا وكيت بالمال والسلاح. أو أن المحاكمة، كانت سياسية وليست قانونية. أو: أن لا عدالة في ظل الاحتلال. كانت أسرة الرئيس المشنوق تطالب بمحاكمة "خارج" العراق، أي في ظل النظام القضائي لحكومات الاحتلال. الغائب الوحيد في هذه التصورات كلها: ضحايا البعث، الذين قضوا فرادى او بالجملة، بعثيين وشيوعيين واسلاميين، عرباً وكرداً، الاقرباء والغرباء. اتذكر قولة في "فلسفة الحق" لهيغل: العقوبة حق المجرم. فهي اعتراف بآدميته، واقرار بأنه داس على حدود هذه الآدمية. ثمة أساس قانوني لمحاكمة الديكتاتور، لكن العرب يحبّون النسيان، بل اللا تفكير.
من نكد الدنيا ان السيرة السياسية للديكتاتور باتت سيرة أمة بأسرها على مدى ثمانية وثلاثين عاماً. في نظر كتّاب سيرته (وبخاصة أمير اسكندر وفؤاد مطر) كان صعود صدام "بمثابة انبلاج فجر نبوة" جديد. نعرف ثمن هذه الكلمات، فازاء كل حرف مثقال ذهب.
ما الإرث الذي خلفته لنا هذه الحقبة؟ تقويض مقومات المدنية، دولة ومجتمعاً. في عهده تشخصنت كل المؤسسات ثم تلاشت. عدنا القهقرى الى نوع خاص من البربرية (ترعرعت في اكثر من بلد عربي). لن اغفر لنفسي، او لجيلي، لاحزابه، وقادته، ومفكريه، وكتابه، قط، هذه الغفلة.
كلنا مسؤول عن صعود هذا الأمي – الريفي، ونظرائه. فثمة خلل في كيان المجتمع، في قيمه، وطرقه في النظر، وطرقه في التفكير. وكلنا مسؤول عن هذا الخواء الحضاري الذي اورثته لنا نظم الحزب الواحد، والفرد القائد.
لم اعجب قط لرثاثة سير المحكمة، وفوضى تنفيذ الاعدام، وفجاجة بعض القيمين عليه.
ذلك ان الرثاثة، في عهد القائد الاوحد، صارت فضيلة اجتماعية، قيمة عليها تكافأ بالذهب الرنان.
يصف دوستويفسكي في روايته "مذلون مهانون" احد ابطال روايته وهو عجوز طاعن في السن، غارق في لجة السقوط الاخلاقي لحفيدته، كيف انه، هو وكلبه، صارا يشبهان بعضهما لطول العشرة، وشدة التلازم.
وبالقياس ذاته بات المجتمع (ودولته) في العراق، يشبه ديكتاتوره العجوز، مثلما يشبه كلب دوستويفسكي راعيه: ابتذال الدهماء وقسوتها وفجاجتها. متى تنقلب هذه السيرة؟
</TD></TR></TBODY></TABLE>