السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
المجنون عند الناس من يسمع ويسب ويرمي ويخرق الثوب، أو من يخالفهم في عاداتهم فيجيء بما ينكرون، ولذلك سمت الأمم الرسل مجانين لأنهم شقوا عصاهم فنابذوهم وأتوا بخلاف ما هم فيه، قال الله جل ذكره "كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر، فدعى ربه إني مغلوب فانتصر" وقال تعالى: "وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين فتولى بركته" يعني فرعون وقال ساحر أو مجنون.وأدبنا العربي يذكر الكثير من القصص والإساطير حول الجنون والمجانين ومنهم حتماً عقلاء المجانين والذين يتخذ البعض العبر والمواعظ من أفواههم ، وسنذكر هنا في الموضوع أربعة منهم :
بهلول هو حكيم ولكن أتهمه البعض بالجنون لذا تم ذكره من ضمن عقلاء المجانين..
قال محمد بن إسماعيل بن أبي فديك سمعت بهلولاً في بعض المقابر وقد دلى رجله في قبر وهو يلعب في التراب فقلت له ما تصنع ها هنا ؟ فقال أجالس أقواماً لا يؤذونني وإن غبت عنهم لا يغتابونني، فقلت قد غلا السعر فهلا تدعو الله فيكشف، فقال والله لا أبالي ولو حبة بدينار، إن الله تعالى أخذ علينا أن نعبده كما أمرنا وعليه أن يرزقنا كما وعدنا، ثم صفق بيديه وأنشأ يقول:
يا من تمتع بالدنيا وزينتـهـاولا تنام عن اللذات عـينـاهشغلت نفسك فيما لست تدركهتقول للّه ماذا حين تلـقـاه
وقيل أن هارون الرشيد خرج إلى الحج فلما كان بظاهر الكوفة إذ بصر بهلول على قصبة وخلفه الصبيان وهو يعدو فقال من هذا، قالوا بهلول المجنون، قال كنت أشتهي أن أراه فأدعوه من غير ترويع، فقالوا له أجب أمير المؤمنين، فعدا على قصبته، فقال الرشيد السلام عليك يا بهلول، فقال وعليك السلام ، قال كنت إليك بالأشواق، قال لكني لم أشتق إليك، قال عظني يا بهلول، قال وبم أعظك هذه قصورهم وهذه قبورهم، قال زدني فقد أحسنت، قال من رزقه الله مالاً وجمالاً فعف في جماله وواسى في ماله كتب في ديوان الأبرار فظن الرشيد أنه يريد شيئاً فقال قد أمرنا لك أن تقضي دينك، فقال لا لا يقضى الدين بدين أردد الحق على أهله واقض دين نفسك من نفسك، قال فإنا قد أمرنا أن يجري عليك، فقال أترى الله يعطيك وينساني ؟ ثم ولى هارباً.قال عمر بن جابر الكوفي مر بهلول بصبيان كبار فجعلوا يضربونه فدنوت منه فقلت لم لا تشكوهم لآبائهم ؟ فقال لي اسكت فلعلي إذا مت يذكرون هذا الفرح فيقولون رحم الله ذلك المجنون !
وعن فليت وهو أحد عقلاء المجانين ،
قال محمد بن عبد الرحمن الكوفي كان لنا جار يقال له فليت وكان معتوهاً. وكانت له خالة وهي عجوز كبيرة قد أدركت عجائز الحي. فكنت أتحدث عندها وكان لها عقل ودين فكنت عندها ذات يوم، إذ دخل فليت فقلت له يا فليت: أيسرك أنك أمير المؤمنين ؟ فقال لا فقلت ولم ؟ قال يثقل ظهري، ويكبر همي، وتنسيني النعم ذكر ربي. قلت وفي الأرض عاقل لا يتمنى إنه خليفة ! قال وفي الأرض عاقل يتمنى أنه خليفة.
ومن عقلاء المجانين سعدون:
قال مالك بن دينار دخلت جبانة البصرة فإذا أنا بسعدون فقلت له كيف حالك وكيف أنت فقال يا مالك كيف يكون حال من أمسى وأصبح يريد سفراً بعيداً بلا أهبة ولا زاد ويقدم على رب عدل، ثم بكى بكاء شديداً، قلت ما يبكيك، قال والله ما أبكي حرصاً على الدنيا ولا جزعاً من الموت لكني بكيت ليوم مضى من عمري لم يحسن فيه عملي، أبكاني والله قلة الزاد وبعد المفازة والعقبة الكؤود ولا أدري بعد ذلك أصير إلى الجنة أو إلى النار، فسمعت منه كلام حكيم، فقلت له إن الناس يزعمون أنك مجنون. فقال وأنت قد اغتررت بما اغتر به بنو الدنيا زعم الناس أنني مجنون وما بي جنة ولكن حب مولاي قد خالط قلبي وأحشائي وجرى بين لحمي ودمي وعظمي فأنا والله من حبه هائم مشغوف، قلت فلم لا تجالس الناس وتخالطهم ؟ فأنشد الأبيات المشهورة:
خذ عن الناس جانباً*كي يظنوك راهبا
وأنشد أيضاً:
ولو لم يكن شيئاً سوى الموت والبلى*وتفريق أعضاء ولـحـم مـبـددلكنت حقيقاً يا ابن آدم بـالـبـكـا*على نائبات الدهر مع كل مسعـد
ومنهم أيضاً تاهتة:
قال محمد بن إبراهيم قال لي أبي كان عندنا مجنون يقال له هتاهية. يجن ستة أشهر ويفيق ستة أشهر، فيكون في إفاقته ساكناً، وإذا هاج أكثر الكلام وصعد إلى السطوح. ويقول يا نيام ! انتبهوا من رفدة الغفلة، قبل انقطاع المهلة، واعملوا في إعداد العدة، قبل انقضاء المدة، واعلموا أن أحبالكم مقصوصة، وأعمالكم محفوظة، والموت يأتي بغتة.
قال عطاء السلمي مررت ذات يوم في بعض أزقة الكوفة فرأيت عليان المجنون واقفاً على طبيب يضحك منه ومالي عهد كان بضحكه، فقلت له ما أضحكك ؟ قال هذا السقيم العليل الذي يداوي غيره وهو مسقام، قلت فهل تعرف له دواء ينجيه مما هو فيه ؟ قال شربة ان شربها رجوت برأه، فقلت صفها، قال خذ ورق الفقر وعرق الصبر واهليلج التواضع وبليلج المعرفة وغار يقون الفكرة، فدقها دقاً ناعماً بهاون الندم واجعله في طنجير التقى، وصب عليه ماء الحياة وأوقد تحتها حطب المحبة حتى ترمي الزبد ثم أفرغها في جام الرضا وروحها بمروحة الحمد واجعلها في قدح الفكرة وذقها بملعقة الاستغفار، فلن تعود إلى المعصية أبداً...
فما أجمل هذا الوصف وما أدقه قد يعجز عنه الكثير من العقلاء .
الحكمة لاتؤخذ فقط من أفواه الحكماء بل أحياناً تؤخذ من أفواه
المجانين المهم ليس من قال الحكمة بل من أعتبر منها...
حتماً هم كثر ولكن للأختصار ذكرنا بعضهم ..
المصدر: كتاب عقلاء المجانين
للنيسابوري
دُمتم جميعاً بكل خير وسؤدد...