السلام عليكم
أشعر بمزيد من الخوف والقلق، حين أتصور أننا نعيش ذلك الواقع الذي أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه الصحيح حين قال: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالمًا اتخذ الناس رءوسًا جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا"، ذلك أن كثيرًا ممن يتصدون للعلم والفتوى والوعظ والإرشاد الديني والدعوة في زماننا، يصرون على التحليق خارج سرب الحقيقة والواقع الذي تعيشه الأمة بأسرها، متسلحين بعلم ناقص، وفقه سقيم، يجعلهم أهلاً للوصف النبوي الوارد في الحديث الشريف سالف الذكر، ويضع الأمة بهم على شفا جرف هار من الضلالة، التي تقود ضرورة إلى الهزيمة الماحقة في كل الميادين.
تدخل المسجد لتصلي، أو لتستمع إلى خطبة أو محاضرة دينية، أو تلقي بك الأقدار أمام شاشة التلفزيون، فتجد أحدهم يتمطى أمام الناس مستشهدًا بآيات قرآنية لا يفهمها، أو بأحاديث نبوية قصر عقله عن إدراك معانيها، أو يتحدث عن واقع لا يدرك كنهه ولا يفقه ضروراته وأولوياته وقواعد معالجته، فيتحدث مثلاً عن حكم الاحتفال بالمولد النبوي، أو حكم المشاركة في الانتخابات، بينما تتساقط قذائف الدبابات الإسرائيلية على بعد عشرات الأمتار فقط من الناس الذين يستمعون إليه في فلسطين، أو يتساقط الناس صرعى لفتنة العنصرية الطائفية التي أطلق الاحتلال الأمريكي لها العنان في العراق، فيصدر أحكامًا مبنية على علم قليل، وإدراك سقيم لما يتحدث فيه، فيؤدي بذلك إلى إضلال الناس وتشتيت عقولهم وحرف أفهامهم، كما حذر الحديث النبوي الشريف.
قد يكون هؤلاء "الرؤوس الجهال" على درجة ما من التحصيل العلمي، وقد يكونون حتى من حملة الشهادات العالية، ولكنهم لبالغ المصيبة التي ترزح تحتها الأمة بهم، لا يمتلكون القدرة على توظيف علمهم لمعالجة واقع الناس، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، وحتى أخلاقيًا، لأنهم ببساطة يفتقرون إلى ما يمكن أن نسميه "فقه الواقع"، أو "فقه الأولويات"، الذي يعني فهم الواقع المعاش، بكل ضروراته وتشعباته ومتطلباته وأولوياته المختلفة، فهمًا واعيًا ودقيقًا، معتمدًا على معلومات وبيانات وإحصاءات علمية، ومعالجة ذلك معالجة حكيمة متفقة مع عقيدة الأمة وتراثها الحضاري، وفق قواعد العدل والاعتدال الذي أمر به الله في قرآنه، بعيدًا عن الإفراط المفضي إلى التنطع والتشدد، أو التفريط المؤدي إلى التنازل والانحلال.
أعلم أن الكتابة في هذا الموضوع صعبة وشائكة، لما قد تثيره لدى بعض ضعاف العقول من نفرة جاهلة تقلب موازين الكلمات والأحكام إلى غير مرادها، ولكنها بالتأكيد ضرورة من ضرورات الهداية والاستقامة التي لأجلهما أنزل الله الكتب وأرسل الرسل، حتى لا يقع المجتمع فريسة لأولئك الجهال الذين ضلوا وأضلوا، وإلا ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أطلق ذلك التحذير الخالد الممتد بعمق وامتداد الزمان والمكان، خصوصًا أننا اليوم نعيش واقعًا دائم التغير والتقلب، ومشحون بالمستحدثات والمستجدات من الوقائع والأفكار والأشياء، ولسنا وحدنا من يقرر فيه اتجاهات حركة الحياة بتداعياتها المختلفة، ولسنا وحدنا من يملك مفاتيح تغييره والتحكم فيه، وبالتالي فإننا بحاجة ملحة إلى الفقه والعلم السديد الذي يحمله الفقهاء والقادة، الذين يجمعون بين فقه الدين وفقه الحياة، ويتمتعون بقدر وافر من فهم الواقع وفقه مراتب الأعمال وأولوياتها، التي جاء بها الشرع وقامت عليها الأدلة، لكي يقوم هؤلاء بمهمة تقويم الفكر، وتسديد المنهج، وتقويم المسيرة، وتأصيل أحكام حركة المجتمع والحياة، بعيدًا عن غلو الغالين أو تفريط المفرطين، أو إضلال المضلين