أزمة دستورية في علبة بسكويت!
مالك التريكي
27/06/2009
لا تزال تداعيات الأزمة الدستورية الناجمة عن فضائح الغش التي تورط فيها عدد كبير من أعضاء مجلس العموم البريطاني تعصف بالحياة السياسية البريطانية على نحو لم يُشهد على مدى ثلاثة قرون من عمر 'أم البرلمانات'. وبما أن الساسة هم أصلا، ومنذ عقود، من أسوأ الفئات سمعة في بريطانيا (إضافة إلى الصحافيين وباعة السيارات المستعملة)، مثلما سبق أن ذكرنا هنا قبل أسابيع، فلك أن تتخيل كم يلزمهم الآن من الزمن حتى يستعيدوا ولو نزرا من مصداقية.
لقد كان حجم المخالفات والتلاعب والاحتيال مهولا إلى حد أن جريدة الدايلي تلغراف، التي سرب لها موظف في الجهاز الإداري للبرلمان قرصا مدمجا عليه كامل سجلات نفقات البرلمانيين، قد شكلت فريقا من خمسة وعشرين صحافيا سخرتهم للبحث في جبل الوثائق هذا طيلة أشهر قبل أن تطلع على الجمهور، على مدى أسابيع، بمسلسل يومي من أخبار فضائح الغش البرلماني. وإذا كانت الصحافة البريطانية بأجمعها قد أفاضت طيلة هذه المدة في تحري وقائع الاحتيال، فإن 'الغارديان' قد زادت على ذلك بأن مكنت الجمهور من المشاركة في 'التغطية الصحافية' لهذه القضية. والمناسبة هو أن السلطات قررت أخيرا، في إطار إثبات الحزم في معالجة المشكلة والجد في إصلاح النظام البرلماني بأكمله، نشر آلاف الوثائق المتعلقة بالنفقات في موقع البرلمان على شبكة الإنترنت (ولو أن الوثائق لم تنشر بتمامها، بل إنها تضمنت كثيرا من المقاطع المحجوبة بالحبر الأسود!).
وفعلا فقد شارك أكثر من أربعة عشر ألف قارئ في فحص أكثر من أربعمئة وخمسين ألف صفحة، وتمكن القراء النابهون من تبين مخالفات واكتشاف احتيالات لم يفطن لها عموم الصحافيين. الأمر الذي حدا ببعضهم إلى اتخاذ هذا دليلا على وجاهة نظرية الصحافي الأمريكي جيمس سورفيسكي القائلة بأن للجماهير حكمة لا يمكن للنخبة أن تبلغها وأن 'حكمة الجُموع' أصوب من خبرة الخبراء.
إلا أن من الجدير التذكير بأن الحكمة الشعبية تتفق مع خبرة المنظمات العالمية العاملة في مجال مكافحة الفساد على أن أول شرط لتحصين موظفي الدولة، سواء في الخدمة المدنية أم الشرطة، ضد غواية الفساد هو دفع رواتب لائقة تضمن العيش الكريم، بحيث ينتفي أي أساس موضوعي لحالات الضعف البشري أمام إغراءات الرشوة والاحتيال، ويتوفر تبعا لذلك الأساس القانوني والأخلاقي المعقول لإجراءات الردع والعقاب. أما أن تظل الرواتب متدنية إلى حد يهوي بموظفي الدولة في مهاوي الخصاصة، فهذا مما يعد تشجيعا غير مباشر (ولكنه ليس بالضرورة غير مقصود، خاصة في أنظمة التسلط) على التكسب غير المشروع.
ومن عجب أن ديمقراطية عريقة مثل بريطانيا لا تزال تتصرف كما لو أنها تجهل ما اتفقت عليه حكمة الشعوب وخبرة التكنوقراط. فقد عمدت الحكومات المتعاقبة إلى إبقاء رواتب نواب البرلمان منخفضة، اعتقادا منها أن الناخبين لن ينظروا بعين الرضا إذا سن الساسة قانونا يرفعون به رواتبهم. لكن هذه الحكومات، المفتقرة للشجاعة اللازمة لمواجهة الناخبين، قد التفّت على المسألة بإنشاء نظام امتيازات يسمح للبرلمانيين بالحصول على بدل لنفقات متنوعة على السكن والأثاث والمواصلات، الخ. وقد أصبح هذا النظام يقوم، عرفيا، مقام الجزء الذي لا يتجزأ من الراتب بصرف النظر عما إذا كانت النفقات فعلية أم وهمية!
وإذا كان بعض النواب لا يحجم عن تكليف خزينة الدولة، أي الشعب الدافع للضرائب، عشرات الآلاف من الجنيهات، بدون وجه حق، على القروض العقارية والأثاث الفاخر...، وحتى على روث البهائم المستخدم في تسميد أراضي الحدائق وعلى إنشاء زرائب للبط والأوز في قلب البحيرات الاصطناعية وعلى الاشتراك في المجلات المتخصصة في تربية الدواجن، فإن بعضا آخر مثل وزير الداخلية السابق ديفيد بلانكيت (الذي تحمس لرغبة بوش في قصف مقر قناة الجزيرة في نيسان (ابريل) 2004) لا يستحي من أن يقدم فواتير لمصاريف لا تتجاوز جنيها واحدا ثمنَ دفتر صغير، بينما لا تستحي برلمانية من تقديم فاتورة بربع جنيه ثمن كيس بلاستيك، ووزيرة سابقة من تقديم فاتورة بجنيهين ونصف ثمن علبة بسكويت! أما أعجب العجب فهو مسلك وزير إيرلندا الشمالية: رجل بلغ من ثرائه أنه تنازل عن راتبه الوزاري الضخم، ومع هذا فإنه لا يتحرج من تقديم فاتورة بجنيه واحد وستة بنسات ثمن... قطعة بيتزا!