بسم الله الرحمن الرحيم
المجمع الضخم الذي يتوسط بغداد ويقع على شاطئ دجلة الغربي، عبارة عن "ألبوم" للأرقام القياسية؛ حجمه، عمارته، إنشاؤه، حراسته، عدد الموظفين، أشبه بفصول في سجل "غينيس" للأرقام القياسية.
فازت بعقد تنفيذ المشروع شركة كويتية هي (الشركة الكويتية الأولى للتجارة والمقاولات)، واشترك في أعمال الإنشاء أكثر من 3500 عامل، وتجاوزت تكاليفه مليار دولار.
يحتل المجمع أرضاً مساحتها نصف مليون متر مربع، أو ما يعادل 104 دونم، قامت "الحكومة العراقية" بنقل ملكيتها إلى الولايات المتحدة في عام 2004 وفق اتفاق لم تكشف مضامينه، وهي تفوق مساحة مدينة الفاتيكان، أو 6 أضعاف مجمع الأمم المتحدة في نيويورك، وتستغرق السيارة للسير بمحاذاة أحد أضلاعه خمس دقائق، ما يجعله يقزّم كبريات السفارات الأمريكية في العالم التي لا تتجاوز مساحتها عادة 10 دونمات.
يشتمل المجمع على: 6 وحدات، 21 مبنى، 619 شقة لاسكان 380 عائلة، سكن خاص للسفير وآخر لنائبه، مبنى استقبال، صالات رياضية، بركة سباحة، ساحات لكرة السلة والطائرة، سينما، مناطق تسوّق، مطاعم، صالون تجميل، مساحات خضراء، ممرات تمتد على جانبيها أشجار نخيل، محطة إطفاء، مدارس، مبنى للـ "النادي الأمريكي" (من الأندية الفارهة).
وللمجمع بنية تحتية خاصة تشمل: محطة توليد طاقة، محطة مياه شرب، محطة صرف صحي، محطة اتصالات هاتفية خارجية مستقلة عن شبكة الاتصالات المتداعية لمدينة بغداد. وبحسب تقرير لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ في نيسان/أبريل 2007 فإن استقلالية البنية التحية تضمن القدرة على العمل في ظروف انقطاع الكهرباء المتكرر، وشحة المياه في بغداد. وأشار التقرير إلى أن أعمال الإنشاء نفذت بفترة زمنية ودرجة نجاح فاقت باقي المشاريع في العراق، بما فيها الطبية والطاقة والمياه والصرف الصحي.
التفاصيل الوحيدة المتوفرة عن الشكل النهائي للمجمع نشرت في تقرير مجلس الشيوخ، الذي برر الحجم الهائل للإنفاق بالصعوبات المتزايدة التي تواجهها وزارة الخارجية الأمريكية في إقناع منتسبيها للمجيء والعمل في أجواء العنف المزمن في بغداد.
يعمل في المجمع 5500 موظف، أي ما يعادل سكان مدينة صغيرة، نصفهم تقريباً من عناصر الأمن والمخابرات، يعملون على مدار الساعة، وعلق المتحدث باسم البيت الأبيض Justin Higgins عن حجم المبنى والعدد الكبير للموظفين بالقول: "إنه دلالة على طبيعة العمل الذي يواجه الولايات المتحدة هنا".
المنظومة الأمنية للمجمع لها دلالاتها أيضاً، فالمجمع محاط بأسوار عالية بسماكة 5 أمتار، فلا يرى إلا من الجو، وترتفع بجانب الأسوار وعلى مسافات متقاربة أبراج مراقبة، يحتلها قناصة مشاة البحرية، وتتولى مسؤولية الدفاع عنه قوة خاصة يبلغ قوامها 1000 عنصر أمني، ولا تزيد مساحة النوافذ على 15% من مساحة الجدران، والأمر كما يقول مهندس معماري: "لا علاقة لحرارة الطقس وأشعة الشمس الحارقة بتصميم النوافذ، فلا ننسى أن السفارة تقع ضمن مرمى قذائف الهاون من جهاتها الأربعة".
وبخلاف السفارات الأمريكية في أنحاء العالم التي يراعى في هندستها النمط المعماري المحلي ونوع مواد البناء، فقد وصف مهندس معماري مبنى السفارة الذي ينتصب وسط بغداد بأنه: "عبوس، أشبه بثكنة، لا روح فيه، أعمى لا يرى أحوال الناس من حوله، أصم لا يسمع نداءات العالم، خالٍ من أدنى مراعاة للذوق العام، وهو أكثر قبحاً من الهندسة المعمارية للنظم الشمولية، ويختصر بذلك مكانة أمريكا في النفوس. ويضيف: هذه ليست هندسة معمارية، إنها إهانة لعمارة مدينة تزخر بالحضارة، إنه وحش". وقال ديبلوماسي غربي: "هذا ليس مكان للدبلوماسية".
يجدر الإشارة إلى أن المعلومات الواردة تم جمعها من مصادر هندسية لعدم توفرها في المصادر الإعلامية.
السؤال الذي لابد أنه اختمر في ذهن القارئ: هل من يشيد صرحاً بهذا الحجم والمواصفات ينوي الرحيل؟ الإجابة معروفة، لكن هذا الصرح لا ينبغي أن يكون مبعث إحباط، على العكس، فهو بنظامه الهندسي وتحصيناته يعلن بأعلى صوت: هنا ميدان معركة مستمرة، هو كالجندي الذي لا يضع عن رأسه القبعة الفولاذية الثقيلة لأن معركته لم تنتهِ.
ما من حافز أوقع تأثيراً من رؤية فريق مشروع لمشروعهم في صورته الختامية، وهذا فن متقدم اليوم، ينتج الكمبيوتر فيه الصورة النهائية على شكل فيلم animation كأنه الحقيقة، وهذه هي الخطوة الأولى في المشروع، التي تستهوي الأذواق وتستقطب رؤوس الأموال، فيقف المشروع على قدميه وهو لازال ضوءاً على شاشة الكمبيوتر. أما في موقع الإنشاء، فتبلغ لذة العمل ذروتها عندما يبصر العاملون نقطة النهاية، عندها ترتفع أصوات الجميع بهجة. يحدث هذا عندما يخترق ضوء الشمس نفقاً تحت الإنشاء معلناً بلوغ أعمال الحفر نهايتها، فيتقافز العاملون من الفتحة الصغيرة للتمتع بالمنظر الختامي، علماً أنه منظر سبقت رؤيتهم له قبل حفر النفق، لكن الممتع في الأمر هو الوصول إليه من خلال النفق.
نحن في نزال لا تكتمل فصوله بخروج المحتل صاغراً أمام البندقية من دون فصل ختامي يتوّج عقيدة وعزيمة وقفتا وراء خروجه، ولا مكان لهذا لفصل الختام غير المكان الذي أدار منه المحتل مشروعه، وإذاً فالعراقيون والبغداديون ينظرون إلى الصورة الختامية لمشروع التحرير، ليست صورة ضوئية وإنما واقعية، هي مبنى السفارة الأمريكية.
أما ما قدر هذا من حقيقة الواقع، فقد دخلت أمريكا معركتها معنا قبل ستة أعوام باقتصاد مكين، وجيش واثق، وهي اليوم مفلسة، وجنودها ينتحرون أو يطلبون اللجوء السياسي، وشبابها يعزفون عن الفروسية، والخريطة السياسية العالمية حبلى بالأحداث الكبيرة.
السفارة الأمريكية ليست مكاناً للديبلوماسية كما قال الديبلوماسي الغربي، ولكن ليس أثناء الاحتلال فقط وإنما بعد كذلك. هي مكان لصنع الذاكرة الجماعية، ليست العراقية فقط، أو العربية، أو الإسلامية، وإنما الإنسانية، هي مكان يحكي قصة انقضاض أمواج بشرية أتت من وراء المحيطات، من الأرض التي هاجرت إليها أساساً وهي تبحث عن الزاد الكلأ والنار، وعندما أوشكت مؤونتها على النضوب، أخذت تجوب الأرض من جديد منزلة الدمار والخراب والقتل أينما حلت.
هذا مكان يحكي لزائره كيف أن البشرية تنوء اليوم بعبء 300 مليون من البشر، وُجدوا وتكاثروا خارج تراكمات الحضارة الإنسانية، وخارج تاريخها، حملهم شظف العيش على الهجرة، وتجمعوا على أساس اللقمة، امتلكوا أعتى سلاح، وأمسكوا بعنق الاقتصاد العالمي، وتستيقظ في أذهانهم ـ مع اشتداد التنافس الأممي ـ كوابيس الهجرة، والأسباب التي مكنتهم من التفرّد بقارة كاملة، فيكررون المشهد ويشيعون الخراب والدمار على خطى الأجداد.