محاضره للسيد هادي المدرسي دام ظله
عن العباس (عليه السلام )
كان العباس للحسين.. كما كان علي لرسول الله: الأول في الاستجابة له, والآخر في الدفاع عنه,والملتزم أبدا بركابه.
سألني أحدهم: ما هي أعظم فضائل العباس ؟ قلت: إن أعظم فضائله أنه "أبو الفضل" كله.
كان رأسه شامخاً لا ينحني إلا لله .. وكانت مشكلتهم معه أنه لا ينحني إلا لله .. ولذلك ضربوا بعمود من الحديد على
رأسه، لعله ينحني لهم .. فسقط على الأرض ورأسه مهشم بالعمود .. ولكنه ظل لا ينحني إلا لله.
كان العباس قوياً في بدنه.. وكان أقوى من ذلك في إرادته.. وكان يهابه العدو لقوته.. غير أن ميزته لم تكن في قوة عضلاته..وإنما في مخالفته لهواه.. وجهاده لنفسه.. ألا ترى كيف انه عندما دخل المشرعة لم يذق قطرة من الماء؟وكان في ذلك من الشجاعة, اكثر مما كان في قتاله للعدو بالسيف.
لقد قال العباس بمواقفه, كل ما يمكن أن يقوله الصالحون بألسنته.
كان العباس شوكة في عيون الأعداء، ولما فشلوا في نزعه من عيونهم، زرعوا الشوك في عينه.
اتدرون كيف اصبح العباس (عباساً)؟لقد اختار الجنة على الجور,والسيف على الحيف,والسلة على الذلة,والصبر على النصر,ومرارة الموت على حلاوة الحياة.
لقد أطاع الله في كل شيء. فجعله الله باباً للحوائج.. لا يرّد في أي شيء..ألم يقل ربنا في الحديث القدسي: " عبدي كن لي,أكن لك "؟ لقد كان العباس لله فكان الله للعباس.
الحديث عن العباس لا ينتهي .. وهل ينتهي الحديث عن "الفضائل" ؟
ضحىّ العباس واخوته بانفسهم في سبيل الله فأصبحت أمّهم "فاطمة الكلابية" قاضية حوائج المؤمنين والمؤمنات.
كان وحده,كتيبة بأ كملها. وكان سيفه وحده , جيشاً بأجمعه.
إتصف بالمولاة للصالحين, ولكنه لك يكتف بذلك بل شفعّه بشنآن الفاسقين فاصبح مهيبا في حياته,وبعد استشهاده,وفي جميع مراحل التاريخ.
ببصيرته النافذة عرف أن من اولى متطلبات الإيمان أن لا يشوبه الشرك حتى في الكلام,فرفض- وكان لايزال طفلاً صغيراً- أن يقول " اثنين " بلسان قال به " واحد ". وعلى تلك البصيرة قاتل .. وعلى تلك البصيرة ُقتل .
لم تكن شجاعة العباس نابعة من طا بع الخشونة فيه,بل كانت نابعة من طبيعة الحكمة التي تضع السيف في موضع السيف,والعطف في موضع العطف,وقد تخلق في ذلك بأخلاق الله تعالى الذي هو أرحم الراحمين في وضع العفو والرحمة,وأشد المعاقبين في موضع النكال و النـقمة.
لقد ذهب الجلادون الذين قتلوه إلى مزبلة التاريخ,أمّـا العباس فقد ازدهرت سيرته,ونمت بطولاته,لتصبح شجرة من نور أصلها ثابت في كربلاء,وفروعها تمتد إلى كل بقاع الأرض,تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها.
آمن العباس بالله ورسوله..وخاض المواجهة لإنقاذ العباد من الجهالة,ليثبت أن الجهاد جزء مكمل للإيمان..وقاتل حتى ُقتل ليكشف عن أن الشهادة جزء مكمل للجهاد,فمن تمتع بالإيمان والجهاد والشهادة فهو الكامل في إيمانه والصادق في طاعته لله ولرسوله.
لا أدري أيهما كان أشد حسرة عصر عاشوراء: العباس الذي لم يستطع إيصال الماء إلى المخيم ؟ أم الماء الذي لم يستطع أن يبقى في قربة العباس ؟
ُقتل وهو يحاول أن يسقي العطاشى,فأصبح العطش من عظماء التاريخ.
غامر بحياته من أجل قربة ماء, ليثبت أن مساعدة ضحايا الحروب لاتقل أجراً عن الجهاد ضد أعداء الحق والعدالة.
تجلبب العباس بالمناقب حتى لا تكاد تجد فرقاً بين كلمة (العباس) وكلمة (المناقب) في قاموس المناقبيات.
رفض العباس العفو الذي أصدره العدو بحقه,ليثبت أن من ليس أهل ان يمنح العفو لا يجوز قبول ذلك منه.فالأمير الذي يرتكب الجرائم ,كيف يجوز أن نقبل منه عفواً ليس من حقه,ونمحنه امتيازاً ليس من حقه؟.
حمل العباس راية الحق,وقاتل من أجل العدل,وأريقت دماؤه في سبيل الحرية فتجاوزت عظمته الزمان والمكان,وأصبح رمزاً للحق والعدل والحرية جميعاً.
منذ ألف عام,والعباس يمتطي صهوة جواده,ويحمل على كتيفيه القربة ليسقي العطاشى بالماء.
ومنذ ألف عام,والأشرار يسدون عليه الطريق,ليمنعوه من سقي الأطفال والنساء.
ومنذ ألف عام وهو يقاتل العدو بيمينه,ويحمل الراية بشماله,ويمسك القربة بأسنانه,ليعرفنا قيمة الماء.. وليعرفنا قيمة الحياة.. وليعرفنا عظمة الجهاد في سبيل ذلك.
منقول